رحيل المناضل الوطني والفنان الموسيقي الكبير مجيد مرهون يطرح للنقاش مجددا قضية سبق أن تعرضنا لها غير مرة خلال السنوات الماضية، حدث ذلك عند رحيل القائد الوطني أحمد الذوادي والمناضلة ليلى فخرو والمهندس هشام الشهابي وغيرهم من وجوه الوطن المضيئة التي كانت لها بصماتها الواضحة في صوغ تاريخنا الوطني، ولا أعني بذلك تاريخ الحركة الوطنية وحدها، وإنما تاريخ البحرين كلها.
مكانة هذه الوجوه الوطنية محفوظة في وجدان الناس وضمائرهم وعقولهم، فتضحياتهم الجليلة ومآثرهم في العمل الوطني ذوداً عن الأفكار والقيم والمثل التي آمنوا بها هي محل تقدير كبير، وبفضل هذه التضحيات، التي هي جزء من تضحيات أجيال من أبناء وبنات هذا الوطن ضد الاستعمار وأعوانه وفي سبيل الديمقراطية والاستقلال الوطني والتقدم الاجتماعي تحقق ما تحقق من انجازات.
ما نحن بصدده هو حث الدولة على ترشيد النظرة إلى التاريخ الوطني، من زاوية أن تاريخنا، بما له وما عليه، لا يمكن تجزئته، ويجب التعامل معه من جوانبه المختلفة، فالمعارضون الوطنيون الذين واجهوا العسف على مدار عقود هم أيضاً صناع لصفحات مهمة من تاريخ الوطن، وبين هؤلاء المعارضين شخصيات من الوزن الثقيل تخطى عطائها الجانب النضالي على الجبهة السياسية، ليشمل مجالات أوسع وأشمل، خاصة حين يدور الحديث عن صناعة الوعي الجديد، وعي الحداثة والتنوير والعصرنة.
وهؤلاء انطلقوا من مقدمات التحديث في البحرين منذ مطالع القرن العشرين، التي أرساها رواده من رجال الفكر والأدب والتعليم الذين افتتحوا المدارس والمكتبات ودور السينما والمسرح وجلبوا المطبعة للبلاد.
المنسبون لتيار الحركة الوطنية الديمقراطية امتداد لهذا التراث، وفي حالات كثيرة مطورون له، وبالتالي آن الأوان لكي يجري النظر إلى تراث الحركة الوطنية ورجالها ونسائها بصفته تراثاً للوطن كله، وأن يعاد الاعتبار، رسمياً، لعطاء المبدعين من وجوه الحركة الوطنية، لا من باب الانتصار لآلامهم وعذاباتهم المريرة في السجون والمنافي وسواها وحسب، وهذا أمر بالغ الأهمية، ولكن أيضاً من باب تأكيد حقيقة أنهم مكون رئيسي لحركة الإبداع الثقافي والفني والنهضة الفكرية في البلد.
لو احتجت لضرب الأمثلة بأسماء بعض هؤلاء لضاق المكان عليها، ولكني أكتفي هنا بالوقوف أمام اسم مجيد مرهون الذي فجعنا برحيله مؤخراً. ان معاناة هذا الإنسان الصلب كالفولاذ والرقيق كوردة أو فراشة، العظيم في إبداعه ونبوغه الموسيقي والوديع في شخصه كطفل مسكون بالبراءة هي التعبير الأكثر بلاغة ودراماتيكية عن الثمن الباهظ الذي دفعه جيله من تضحيات، ابتدأت في عهد الحماية البريطانية واستمرت للأسف بعد انتهائها.
لكن مجيد حول سنوات سجنه الطويلة إلى ورشة إبداع تثير الذهول، فخلف لنا مئات المقطوعات الموسيقية التي ما زال الجزء الأكبر منها لم يعزف بعد، وحسب المايسترو خليفة زيمان لو أن يوماً واحداً من مهرجان البحرين الموسيقي السنوي خُصص لتقديم لأعمال مجيد، لغطت هذه الأعمال ما يتراوح بين ثلاثين إلى أربعين دورة قادمة من دورات المهرجان.
هذا التراث العظيم لا يمكن أن يجحد. نريد موسيقى مجيد تحلق في سماء هذا الوطن وخارجه. نريد مدرسة أو شارعاً يحمل اسمه، ونريد سيرته الحافلة مادة تدرس لتلاميذ المدارس. نريد نظرة أكثر رشداً للتاريخ.
2 مارس 2010
صحيفة الايام