قرابة العاشرة والنصف من صباح الثلثاء 23 فبراير/ شباط 2010 توقف عن الخفقان قلبُ موسيقيٍ فذ لم تلد البحرين مثله، لكنها لم تقدِّره حق قدره، ومناضل جسور أقدم على تنفيذ إحدى أخطر عمليتين ضد ثاني أخطر من بطش بشعبنا أيام الاستعمار البريطاني، وأشهر نزيل لسجون البحرين التي قبع فيها لاثنين وعشرين عاما حتى اكتسب حق اسم مانديلا البحرين. إنه صنو نلسون مانديلا ليس بسبب طول فترة السجن أو سواد بشرتهما وسواد السنين التي عاشاها، ولا بسبب الشبه الشديد لوجهيهما شكلا وملامح فقط، بل ولأنهما أيضا إنسانيان عالميا الأبعاد، أمميان تتخطى أفكارهما وإبداعاتهما الحدود الوطنية إلى العالمية. إنه مجيد حميد مرهون، مجيد.. المثقل بالموسيقى والحديد.
في ذلك اليوم تجلببت بسواد الحزن أسرته المكونة من زوجته الصابرة فاطمة، ابنه الوحيد رضا، وأخوات رضا اللاتي خلَّفهن مجيد من غير صنف البشر: أزميرالدا، نستالجيا وبقية أخواتهما من المقطوعات الموسيقية التي شُدَّت إليها إعجابا آذان وقلوب وعقول موسيقيين كبار في برلين وستوكهولم والقاهرة وغيرها من عواصم الثقافة، الألحان الكربلائية الحزينة التي أدخلها مجيد لتتقدم مواكب العزاء الحسينية أيام عاشوراء، وأخيرا نشيد ‘طريقنا أنت تدري’ ذو الوقع الحماسي الخاص الذي ظل يلهب مشاعر مناضلي جبهة التحرير الوطني البحرانية ومن ثم المنبر الديمقراطي التقدمي ومحيط واسع من الأنصار والأصدقاء منذ عقود من السنوات.
كيف تسنى لهذا الذي أفقده ضنك العيش والفقر المدقع حاسة السمع ليصبح أصما أن يُسمِع شعبه والعالم كل هذه الموسيقى دون أن يسمعها هو؟ كان ذلك هو الحال مع الموسيقار الألماني الشهير لودفغ فان بتهوفن ‘1770 – 7281م’، الذي كتب أعظم أعماله الموسيقية بعد أن داهمه الصمم في أوائل القرن التاسع عشر. لكن بتهوفن كان يتعرف على موسيقاه أثناء لعبها عن طريق ما عرف بالاتصال العظمي. أما كيف تسنى لمجيد القابع في السجن أن يؤلف موسيقاه دون وجود أية آلات لديه أصلا لاختبار ما كتب؟ ذلك سر آخر فوق الصمم. أَوَ نعجب بعد هذا أن كان موسيقيو جمهورية ألمانيا الديمقراطية آنذاك هم أول من أولى إبداعات مجيد الموسيقية اهتماما؟.
لعل السر في ذلك هو تعلق مجيد بالحياة وإيمانه بأن فجر الحرية سيبزغ يوما، وأن المحن مهما عظمت هي مجرد اختبار للإرادة. بعد أن أهيل التراب على جسد مجيد، حدثني رفيق دربه السيد إبراهيم مكِّي متذكراً يوم أُخذ مجيد من الزنزانة لسماع النطق بالحكم ضده. عاد إليهم بابتسامته المعهودة: – بَشِّر مجيد؟!.. أجاب بكل هدوء: ‘مؤبد’. انخرط الجميع في بكاء على مستقبل مجيد، إلا هو، ظل يهدئ الجميع: ‘أليس هذا طريقنا، أليست هذه ضريبته؟’. بعدها ظل مجيد مُدخِلا السكينة في قلوب أفواج تعاقبت على السجن. علَّم بعضهم الموسيقى، وبعضهم أدب السجون وبعضهم الآخر الصبر والتنظيم والمطالبة بالحقوق. ولبطولته وإبداعاته ذاع صيت مجيد واشتدت في كثير من عواصم العالم حملات من أجل إطلاق سراحه. حينها عُرض عليه أن يخرج من السجن مقابل التوقيع على وريقة ‘براءة’. بهدوء طبعه وهدير صوته أجاب بأن المقبل قليل بالذي قد مضى، وأنها لصفقة خاسرة.
هل كان مجيد الذي بدا مرحاً دائماً، نشطاً ومنشغلاً بموسيقاه وبالآخرين قبل نفسه قد اعتبر السجن عالمه الأبدي فسلم الأمر ليتكيف معه على أنه حياته الأبدية؟ لقد قرأ النقاد في موسيقى مجيد عكس ذلك تماما. لاحظ بعضهم أن صوتا غريبا خافضا يمر عبر ألحانه كخط أحمر. صعُب تفسيره في البدء، لكن سرعان ما اتضح أنه صليل سلاسل القيد الذي تسحبه قدماه فتنسحب عليه حزنا عميقا يخفيه عن رفاقه ليصبَّه في موسيقاه. لكن موسيقاه لم تكن أسيرة الواقع الذي عاش، بل رسالة إلى العالم الصغير والكبير خارج السجن، وأكثر من ذلك كانت رسالة مجيد للمستقبل.
من يدري، ربما كانت مبادرة وزيرة الثقافة والإعلام الشيخة مي بنت محمد آل خليفة، بعد أن تعذرت محاولات مع جهات كثيرة أخرى، بإصدار الجزء الأول من قاموس الموسيقى لمجيد مرهون أثناء حياته رمية نحو المستقبل باستكمال إصدار ما تبقى بعد رحيله؟ وبداية لتخليد ذكرى هذا المبدع والبطل الأسطوري كمكون مهم في السياسية الثقافية على المستوى الرسمي؟ من يدري، ربما قد يلهم الفراغ الذي سيتركه مجيد في عالم الموسيقى البحرينية أحبته وزملاءه الموسيقيين والفنانين البحرينيين لإنجاز أعمال فنية كبيرة تحمل وتخلد اسم مجيد؟.
أما أولاً وأخيراً، فسيبقى تاريخ مجيد مرهون النضالي، صورته كبطل وطني، إنتاجه الفكري – الفني، أسرته الصابرة أمانة في أيدي رفاق مجيد من المنبريين والديمقراطيين قبل غيرهم. فعسى أن يكون يوم أربعينية مجيد التأبينية مؤشراً جدياً على حمل وتسليم الأمانة للأجيال المقبلة.
صحيفة الوقت
1 مارس 2010