أنجز قاموسه الموسيقي الذي كان يشتغل عليه منذ أن كان في السجن، هذا ربما ما يجعلنا نشعر أنه لم يذهب وفي نفسه شيء علينا، فهو وإن كان يستحق الكثير الكثير، لكنه أبداً لم يطلب إلا الأقل الذي كنا نقدمه له، كان قاموسه الموسيقي هو هاجسه الذي شغله، إنجازه كان ضرورياً بالنسبة إليه، لأنه كان يرى بوضوح كيف أننا في العالم العربي نفتقد إليه، لذلك كان حريصاً على أن يكون حاضراً حين يكون هو الغائب، وبالفعل وبعد فترة طويلة من العمل المضني والملاحقات المتعبة، أنجز هذا المشروع ووقعه في منتصف مارس 2008.
غير أن منجزاً آخر لم يسعَ إليه لابد أن تتم العناية به الآن بعد أن رحل مرهون، وهو ربما المنجز الأهم بالنسبة لنا نحنُ مستمعو موسيقاه، في حواره مع جريدة الأيام بتاريخ 30 أكتوبر 2006 قال مرهون بأن موسيقاه تتجاوز 350 عملاً موسيقياً لم يعزف منه سوى 30 عملاً لحد الآن، الفارق في الرقم مهول جداً، ومسؤولية الحفاظ على هذا التراث الغني يجب أن تبدأ بوزارة الثقافة، وفرقة البحرين للموسيقى، والمنبر الديمقراطي التقدمي ولكنها لا يجب أن تنتهي لدى هذا الحد، يجب أن تتعداها لكل مهتم بموسيقى هذا الراحل الكبير. بنا جميعاً نحن الذين آمنا تماماً بالقيمة التي تمنحنا إياها لحظة استماعنا لمقطوعة موسيقية له، ويجب علينا أن نتحمل جميعاً هذا الدور في توثيق العمل الموسيقي لمجيد مرهون.
في حواره مع الأيام كان مرهون مؤمناً بأن موسيقاه هي حريته، أكد عليها كثيراً بقوله عن لحظة سماعه لخبر عزف موسيقاه في الأكاديمية السويدية «كانت لحظة شعرت فيها بعظمة موسيقى مجيد، أجل.. قلتُ في نفسي، هذا هو صوتي، هذه هي روحي، تلك هي موسيقاي، هي ذاكرتي.. هي أنا فعلاً وليس هذا الجسد السجين، ولذلك فقد شعرت ساعتها أني أكثر حرية منهم»، ولابد لدى التأكيد على حرية مرهون أن نعرف أن الحرية هي القضية التي دافع عنها مرهون، وقضى من أجلها عمراً في السجن، ولابد لنا أن نبحث عن حريته بعد أن رحل.. حريته التي في موسيقاه. حريته التي رأها وسمعها وأحسها، والتي يفترض بنا نحن أيضاً أن نراها ونستشعرها ونسمعها.
لم يترك مجيد مرهون، كتاباً يحكي سيرته، لم يطبع كتاباً في تأريخه السياسي كأي مناضل، كان موسيقياً باقتدار، وكانت الموسيقى هي الصورة التي يريدها أن تظهر عنه وهي أيضاً كانت التي تحرض فهمه وقراره السياسي، ولذلك ربما فهم الماركسية لا كما يفهمها الكثيرون، ويقول عنها في نفس الحوار «فعلاً كنتُ ماركسياً لينينياً قبل أن أدخل السجن، وبقيت في السجن ماركسياً لينينياً وحين خرجت منه خرجت منه ماركسياً لينينياً، ذلك أني لم أفهم الماركسية أبداً علي أنها ضد الدين.. كنتُ أعرف جيداً أن ماركس حين كان يقول بأن الدين أفيون الشعوب كان يقصد أولئك النفر المتسلّطين علي رقاب الناس باسم الدين، أولئك الذين يستغلّون الدين لمصالحهم الخاصة» هكذا تشتغل الموسيقى كفن في فهمه للأيديولوجيا، ويضيف «هذه الأفكار كلّها تطوّرت خلال المعتقل، ومن نواحٍ عدّة منها الفلسفية والفكرية والأخلاقية وتطوّر داخل السجن المفهوم الليبرالي عندي»، ومن أجل هذا الفهم المختلف هذا الفهم الموسيقي والفني للايديولوجي فإن مرهون لم يترك أثراً سياسياً، لكنه ترك لنا تراثاً واسعاً من الموسيقى، لابد أن نكون جديرون بالحفاظ عليه.
وفي نفس الحوار أكد مرهون على أنه يحتفظ بجميع نوتاته الموسيقية، معتبراً إياها إرثه الحقيقي، ومعبراً عن أنه يحتفظ بهذا التراث عبر احتفاظه بالنوتات الموسيقية، ومضيفاً أن الناس تفقد ذاكرتها إن لم تحفظ هذه الذاكرة، وأكد على أنه يهمه الحفاظ على هذا التراث، ويؤكد أيضاً أنه لم يهتم يوماً بذاته، ويوصينا أن نستمع إلى أعماله لنجد ذاكرته، ليس الحدث في الذاكرة بالتحديد ولكن بالتأكيد نتيجة الحدث، هذه وصية حقيقية علينا جميعاً مسئولية تنفيذها بأي طريقة دون إهدار حقه الفني كمؤلف موسيقي وحق ورثته من هذا التراث الموسيقي.
الأيام 26 فبراير 2010