في كل فترةٍ يتعولمُ العالمُ، أي يغدو عالمياً مترابطاً أكثر حسب التشكيلات الاقتصادية الاجتماعية التي يعيشها.
نحن منذ نهايةِ القرونِ الوسطى نعيشُ عولمةَ الرأسمالية، وليس المعسكرُ (الاشتراكي) إلا شكلاً شرقياً من الرأسمالية.
سبقتنا عولماتٌ: عولمةُ الرأسماليةِ التجارية بكشوفاتِها الجغرافية، ورمزها الأدبي كان جلفر في بلاد الأقزام (الرأسمالية الغربية في البلاد الشرقية) و(روبنسون كروزو) المعبرُ عن طلائعِ الاستعمار الأولى للبلدان الفقيرة الذي جعل جمعة صديق روبنسون وتابعه الشرقي عاملاً منتجاً للمواد الخام من أجل المصانع الغربية، ثم تأتي عولمةُ الثورةِ الصناعية التي جعلتْ من الاستعمار ضرورةً عالمية: سيطرةً على المواد الخام وإيجادا للأسواق البشرية المشتركة.
ثم تأتي عولمةُ الصراع بين الرأسماليتين العالميتين الشرقية والغربية، التي خسرَ فيها العالم كله أكثر مما خسر في كلِ تاريخهِ السابق من خسائر بشرية ومادية.
الرأسمالياتُ الشرقية تؤسسُ وجوداً قومياً يُنتهكُ من رأسمالياتٍ غربية متمكنةٍ بالسلاح والاقتصاد والثقافة، والرأسمالياتُ الغربيةُ تواصلُ النموَ القيادي للعالم، وترفضُ المشاركةَ الشرقية أو التجاوزَ المزعوم باسم الاشتراكية، وتسقطُ هذا التجاوزَ بتطورِها الاقتصادي وبحربِها السياسية!
وتحدثُ هنا بعد الصراعِ الطويل بمستوى الزمنيةِ التاريخية الراهنة، التي تمثلُ كلُ عشرِ سنواتٍ أكثر من مائة سنة في التاريخ السابق، مقاربةً عالميةً بين الغربِ والشرقِ لم تحدثْ بأي بمستوى تاريخي سابق، فالإنسانيةُ هنا تقفزُ قفزةً كبرى عبر تناقضاتِها وصراعاتها كذلك!
الرأسمالياتُ الحكوميةُ الشرقية استثمرتْ جهازَ الدولة وخداعَ الكادحين لإحداثِ القفزةِ الكبرى في تاريخها، وأسستْ رأسماليات متطورة في بلدانِها الكبيرة، بعد أن تطورت الرأسماليات الغربية تطوراً اجتماعياً قاربَ الطبقات العاملة لمستويات معيشية جيدة، وحقق بالتالي ثورةً صناعيةً تقنيةً جعلتهُ يتجاوز الخضوعَ لاستيراد المواد الخام الشرقية غير الثمينة، كما استمر في سيطرته المباشرة وغير المباشرة على المواد الخام العالمية الثمينة، وجذب الطبقات العاملة الشرقية للعملِ بأجورٍ زهيدةٍ في بلدانه، ووسعَ من تصديرهِ للسلعِ ذات الأثمانِ الكبيرةِ للبلدان الشرقية، فاستمر على قمةِ الاستغلال العالمي محققاً معيشةً مرفهةً لطبقاتهِ الرأسمالية ومعيشةً جيدةً لطبقاتهِ العمالية الغربية كذلك!
غدتْ العولمةُ في أبرزِ تجلياتِها هنا مركزةً على انتشار الأجهزة التقنية المعلوماتية وتناميها وتداخلها مع أشكالِ أجهزةِ الكمبيوتر والاتصال كافة، مما قادَ لتسارعِ خُطى الثورة الصناعية – التقنية – المعلوماتية، وألغى الجغرافيا الأرضيةَ المنفصمةَ فلم يعدْ ثمة من أهميةٍ لثنائيةِ الشرق والغرب التي عُرفتْ خلال آلاف السنين، والتي كانت تمثلُ سوراً صينياً حسب النظرات الجامدة للعصور السابقة.
لكن الإلغاءَ لا يتم إلا حسب تطور القوى المنتجة للبلدان، فالدولُ التي حققتْ ثوراتٍ اقتصاديةً كبرى هي التي تقومُ بالالتحام فوق مسرح الشعوب النامية أو النائمة، مثل الصين والهند واليابان وروسيا والبرازيل وغيرها.
ثوراتٌ اقتصاديةٌ تمكنتْ من إيجاد قواعد صناعية كبرى، ومن تشغيل أغلبيةِ سكانها في الإنتاج المتطور، وجذبت قوى الإنتاج الممكنة شرقاً وغرباً لتطوير قواعدها لمستويات جديدة، وقد توجهت الدولُ الشرقيةُ لجذبِ الرساميل والتقنيات المتطورة، فيما تركتْ للدولِ الغربية بعضَ قواها العاملة، مثلما يدورُ صراعٌ بين الجانبين على القوى الذهنية المتطورة الشرقية واستيرادها للغرب.
ومع التطور المتسارع لعمالقة آسيا فمن المؤكد ان التاريخ الغربي المهيمن الذي استمر عدة قرون من بعد عصر الاكتشافات الجغرافية، يكون قد وضع حد له، وبدأ الشرق الغربي بقيادة التطور الاقتصادي.
إن الرأسمالية ذات المستويين، التي تغدو ذات مستوى واحد، تغدو عالماً واحداً، هو عالم إنساني مشترك كذلك، نظراً لأنه ليس الرأسماليون هم فقط من يشكل العصر القادم، فالطبقات العاملة لها بصماتها، وهي ذات حضور نقابي سياسي في الشرق، أكثر منه حضوراً قيادياً حكومياً، في حين أن القوى العاملة تقترب في الغرب من القيادة السياسية.
نجد في جنوب الهند أو الصين أو تجربة روسيا الاجتماعية السابقة مثل هذا الجمع بين تجارب الطبقات العاملة والتطور الرأسمالي المتطور، حيث تتوجه الإنسانية عامة ليس فقط لتطور الإنتاج بل لرفاهية المنتجين كذلك. وهذا الجمع المتصارع، بين نمو التقنية والقضاء على الاستغلال والفقر سيكون هو بؤرة القرن الحادي والعشرين بشكل خاص.
ولكن أمام هذا الهدف قارات كبيرة من التخلف والفقر.
صحيفة اخبار الخليج
25 فبراير 2010