يمر أسبوع من دون أن تلقي السلطات المصرية القبضَ على مجموعةٍ من جماعةِ الاخوان المسلمين المحظورة، التي تمثلُ كذلك المعارضة العلنية المشروعة في مجلس الشعب المصري!
تناقضٌ سياسي فج، ورأسا المجتمع المصري منفصمان ومتوحدان! وهذا التناقض العجيب بحاجة إلى التوضيح.
إنهُ تعبيرٌ رمزي كذلك عن عجز قوى الحداثة العربية عموماً عن التلاقي حول ثقافة سياسية مشتركة وحل مشكلات المواطنين المعلقة.
أكبر بلد عربي، وأهم قوة تحديثية عربية مشلولة في واقع الأمر عن إيجاد شيءٍ جديد في جسمِ الأمة المتمدد من الخليج إلى المحيط المشلولِ غيرِ القادرِ على اتخاذ موقف عصري تحديثي ديمقراطي خلاق!
الإخوان المسلمون على الرغم من كل تطوراتهم الفكرية والسياسية لايزالون في خندقٍ معارض للحداثة، التي هي جوهر العصر السياسي.
إن بؤرةَ المسألة تكمنُ في أن الديمقراطية التي سلموا بتداولها بين الفرقاء السياسيين تتطلب العلمانية، التي لم يقاربوها.
فمقاربتُها تتطلبُ إعادةَ النظر حتى في تسمية حزبهم:(حزب الاخوان المسلمين)، فهو يعني حزباً ذكورياً، لا تمثيل فيه للنساء، ويعني انه حزبٌ غيرُ مصري، لأن المسيحيين مستبعدون منه.
كيف يستطيع حزبٌ معارضٌ يمثل نسبة كبيرة من المصريين أن ينفي المواطنين المسيحيين المصريين من داخله؟!
كذلك فإن ظهورَهُ باعتبارهِ الحزبَ الإسلامي الوحيدَ ينفي كذلك إسلامية المواطنين الآخرين الذين لا يؤمنون بتصورات الحزب السياسية والفكرية!
إن توحد الحزب مع المطلقات الدينية والذكورية المفارقة للتاريخ الراهن، تجعلهُ حزباً جامداً من الناحيةِ السياسية وغيرَ قادرٍ على استثمارِ الفرصةِ السياسية الكبيرة المؤاتية له لكي يقومَ بتغييرٍ تاريخي منتظر في مصر.
إن هذا الغبشَ الايديولوجي يحدثُ لأسبابٍ كثيرةٍ متعددة ومتداخلة، إنه بسبب الجمود الكبير الذي ارتبط به الحزب، فالجماعة السرية لها تقاليد شمولية تفرضُ نفسها، ويصعبُ عبرها حدوث تعددية داخلية عميقة، وبالتالي فإن الفكرَ السياسي يغدو متصلباً.
كذلك فإن تعبيرَ حزبِ الاخوان عن الفئات الوسطى المدنية الحرة خلال هذه العقود، جعله في تضاد مهم وأساسي بالرأسمالية الحكومية البيروقراطية الفاسدة، المعرقل الأكبر للتطور الاقتصادي وللحريات السياسية والفكرية، من دون قدرةٍ على طرح برنامج الرأسمالية الديمقراطية الحرة البديل عن نظام رأسمالي شمولي.
إن عدم طرح ذلك لا يقود إلى الحداثة بل إلى الجمود في المحافظة الدينية، وهي محافظةٌ ليست ذات غنى فكري إسلامي كبير. فلم تُنتجْ تصوراتٌ فكرية خلاقة هنا، بل جُعلت العباداتُ والمعاملاتُ في مركزِ الإنتاجِ السياسي للحزب، بدلاً من الأفكارِ الحديثة والعقلانية الدينية، والمقاربة مع الغرب الديمقراطي.
هنا نجد ان الأحزابَ التركية المعبرة عن الطبقة الوسطى، حصلت على فرصٍ تاريخية أكبر للتماثل مع طبقتها، بسببِ انتشارِ الرأسمالية الإنتاجية الخاصة لزمنٍ كبير، مع تآكل الرأسمالية الحكومية البيروقراطية على مدى عقود، لكن الأتراك الاخوان المسلمين لم يجمدوا تنظيماتهم السياسية، ونقلوا البؤرةَ السياسيةَ من العباداتِ إلى الأفكارِ السياسية التحديثية التي غدت المحورَ في ممارساتِ التشكيلات الحزبية الدينية – العَلمانية، وجعلوا العبادات في الخلفية الاجتماعية، فيستطيع أي مواطن أن ينضم للحزب مهما كانت آراؤه الدينية، وهنا لعبتْ العَلمانيةُ المحدودة كذلك دورَها في تطوير الحزب النهضوي (الديني)، في حين ورث الاخوان المسلمون أثقالَ دولةٍ عسكرية امتدت نصف قرن، ورغم انفضاض الفئات الوسطى عنها، ومعها جمهورٌ واسعٌ من الفقراء، فإنها لم تعطِ القوى الاجتماعية إمكانات كبيرة للملكيات الفردية الإنتاجية الواسعة، فشلت البيروقراطيةُ الاقتصادَ والحياةَ السياسية الاجتماعية.
لكن بالمقابل لم يتخذ الإخوانُ المسملون المصريون مرونةً سياسية كبيرة كنظرائهم الأتراك، فظلوا متمسكين بالتنظيم التاريخي، وثوابته الجامدة، وتشكلتْ منه تنظيماتٌ أخرى بعضُها مسلحٌ إرهابي مما رسم علامةَ استفهام كبرى حولهم خاصة للفئات التحديثية التي هي مفاتيح التغيير السياسي.
إن صعوبات الاخوان أكبرُ من نظرائِهم الأتراك، فالأتراكُ يواجهون مجتمعاً سنياً مهيمناً أُعد طويلاً لبروزِ الطبقة الوسطى، وليست فيه جذور حضاراتٍ مغايرة لها، في حين أن الإخوان المصريين يقابلون مجتمعاً إسلامياً مسيحياً ذا جذور وثنية حضارية كبيرة، وهذا يتطلب ثقافة وطنية وإنسانية وديمقراطية كبيرة، لتاريخ مصر ولتاريخ الإسلام!
رأسا مصر بحاجةٍ إلى الحوار المشترك، مثلما أن الرأسمالية الحكومية والرأسمالية الخاصة بحاجةٍ إلى خطةٍ اقتصادية تنموية مشتركة تتأسس بشكلٍ ديمقراطي، وللأسف فقد عودنا الخصومُ الكبارُ على تمزيقِ الخرائط الوطنية أكثر من إعادةِ بنائها!
صحيفة اخبار الخليج
24 فبراير 2010