في مسألة اغتيال المبحوح وُضعت الدولُ الغربيةُ الديمقراطية الكبرى أمام مسألة شائنة مباشرة وعنيفة، فهذه الدول التي تقول إنها مع القانون وضد اغتيال البشر وضد الإرهاب وغير هذا من شعارات، تقفُ عاجزةً كطفل صغير أمام البلطجة الإسرائيلية التي تلاعبت بالمؤسسات الرسمية البالغة الأهمية لهذه الدول الكبرى من انتحال أسماء مواطنيها إلى تزوير جوازاتها والقيام بعمل إجرامي تحت مظلاتها المشتركة!
دولٌ كبرى تحولت إلى دول صغيرة متقزمة وأهانت نفسها وشعوبها!
دولٌ ترفعُ شعارات الحضارة وعملقة شكسبير وإنسانية موليير وعظمة همنجواي، فإذا هي مجرد محلات لسماسرةٍ صغار وباعةٍ لكتب أرسين لوبين!
هي حكوماتٌ لم تحصلْ بعد تواجه أسئلة شعوبها وطبقاتها العاملة تضربُها على رؤوسها المخدرة بالسمسرة السياسية والفساد.
البلطجة الإسرائيلية هنا هي عمل صغير، وجزء بسيط من سنوات حروب وتعديات كلها تتم بذات الطريقة، لكنها تتأسس على التقاليد السابقة نفسها، وقد صعدتْ إلى درجة كبيرة من الوقاحة، والاستخفاف بمعايير العالم الجديد، حتى يتم تزوير جوازات الدول الكبرى في مطار إسرائيلي، ومن دون اللجوء حتى إلى أعماق وزارة الداخلية، ويتم سحب هويات المواطنين الغربيين وهم في بيوتهم وأعمالهم، ليروا أنفسهم فجأة كمشبوهين عالميين!
الدول الديمقراطية العلمانية الكبرى يتم بهدلتها بشكلٍ عالمي، ويتم (جرجرتها) إلى فضائح مسرح المنوعات الرخيص من خلال بلطجي يقبعُ في تل أبيب يرفضُ تسليم نفسه للشرطة العالمية.
فضيحة معاكسة لقضية دريفوس الفرنسية الشهيرة التي ترافع فيه بقوة أميل زولا عن دفاع عن مواطن فرنسي من الديانة اليهودية، لكن فرنسا الآن تفتقر إلى كاتب مثل أميل زولا، ويسود فيها النصابون وجماعات الأدب الشكلاني وباعة الأصوات والضمائر لمن يدفع، اختفى جان بول سارتر وحلتْ (الايدي القذرة)!
تحول دريفوس اليهودي المظلوم إلى صهيوني مجرم عابر للقارات، ينهبُ الأراضي ويأكلُ لحومَ الأطفال الفلسطينيين والإسرائيليين في الصباح من دون أن يُحاسب على كميات اللحم والدم الممتزجة في محكمة شيلوك الصهيونية.
لقد قبلت الدول الغربية اعتبار إسرائيل خارج القانون، وخارج تاريخ الحداثة والعلمانية والديمقراطية وكل القيم التي عملت لها النهضة الأوروبية خلال قرون، فشكلتها دولةً دينيةً مضادة لتطورها، وقامت شعوبٌ أوروبية عديدة بدعم هذه الدولة سكانياً، نافيةً تاريخها ونضالها الذي تقوم به في بلدانها.
فعاشت إسرائيل على تاريخ ما قبل الحداثة وما قبل القانون، رغم أن كل حجرٍ مؤسس فيها مقام على دم وجثة، وغدت إسرائيل تنتمي إلى ما قبل التاريخ الحداثي، كجزءٍ من الأسطورة المقدسة الكابوسية لأوروبا، كجزء من التعويض عن الجرائم المسيحية ضد اليهود، وغدا الإرث اليهودي كالعالم الباطني والضمير تجاه الديانة المسيحية الاستعمارية السائدة، وصارت إسرائيل عالماً لا يمكن محاسبته واعتباره كياناً مثل أي دولة أخرى تطبق عليها القوانين التي تطبق على الدول والبشر!
ولهذا نرى الاحتجاجات ضد الجرائم الإسرائيلية باهتة ومحدودة في أوروبا وأمريكا، بعكس الاحتجاجات ضد الظواهر الأخرى كمؤتمرات العولمة مثلاً.
ورغم أن الدول الغربية تمتلك الأغلبية في مجلس الأمن، وقد استمر الاحتلال الإسرائيلي للضفة وغزة منذ 5 يونيو 1967، كأطول احتلال في النصف الثاني من القرن العشرين، فإنه احتلال لطيف وخارج النقد والتظاهر، ولا تقوم الدول الكبرى بتهديد إسرائيل للانسحاب وإلا واجهت عقوبات بضائعية أو نقدية!
وحتى العرب تقبلوا الاحتلال الإسرائيلي من دون أن يحولوا حتى هذه المناسبة الكارثية إلى احتجاجات دورية مثلاً.
ثم تحولت إسرائيل إلى قوة انتقامية باطشة مهيمنة بشكل كلي على المنطقة مع تفكك الدول العربية والإسلامية وأخيراً مع تمزق صفوف الفلسطينيين وتناحرهم ودخولهم في صراعات السيادة والفساد!
صحيفة اخبار الخليج
23 فبراير 2010