مدينة واحدة فقط هي
عندما يملك المرء الحرية
الطبيعية للعيش بسلام» أفلاطون.
بهذه المقولة التاريخية باتساعها الفلسفي والمجرد، باستطاعتنا أن نفكر
بطريقة أفضل ولكن
ليست بطريقة أكمل، وبأن نفتش عن
حريتنا الناقصة دائما، لكونها لا تكتمل
أبدا ولن نراها أبدا لكوننا
نصنع الحرية على الدوام دون توقف. يتلازم ذكرى الميثاق التاسع
مع عنوان مشروع كتابي الذي لازال في الأدراج يبحث عمن يتبناه ربما
لكونه مازال ابنا عاقا في عالم السياسة، أو لا يرضي كل الأطراف لكونه مشروعا في طور الولادة فقد كتبت مقالات الكتاب
وموضوعاته مع ولادة
مشروع الميثاق ومناخه الساخن
والديناميكي بالسجال والاختلاف، وكنا يومها مع اللحظة
التاريخية في المضي مع المزاج العام لمجتمع يخرج من زنزانة كبيرة اسمها الطوق الصارم وحالة الاحتقان الطويلة، فنتذكر حالة
منفي وسجين في زنزانة ضيقة خرج لمساحة كبيرة من بوابة السجن
ليشاهد أمامه عالم يضج
بالأسئلة والحيرة والبحث عن
المخارج الممكنة.
كان الإنسان البحريني في تلك اللحظة مع الميثاق فجاءت النسبة كبيرة وخيالية في
عرف الشعوب المقترعة،
ومازال معه لأن نصوصه لم تستنفد
مهماتها ولم تمتحن جميعها على ارض الواقع، رغم ان المواد
المكتوبة فيه وثيقة تاريخية كبيرة تنتج ذاتها، ليس لزمن ولادتها وحسب
وإنما لأزمنة ابعد من السنوات التسع، التي برهنت بحراكها وتناقضاتها
وشدها وجذبها، جزرها ومدها، بأن مسار الحركة الاجتماعية والجماهيرية
ظلت رغم التعرجات تنشد للأعلى وللتقدم حتى وان كنا نخطو ببطء في بعض الأحيان
ونندهش في أحيان كثيرة. ظل الميثاق بالنسبة لي حينها ومازال علامة تاريخية
كبيرة في حياة شعبنا، فمن كهف الظلمة خرج لنا الضوء وما زلنا نحاول
المسك بشعاعه الواسع دون جدوى، أما لقلة صبر الذين يريدون التاريخ أن
يصنع لحظته المنشودة أو يصبح المتغير جوهريا في اللحظة دون أن يعي أن التراكم عنصر مهم للتغير للانتقال إلى نوعية
ومرحلة جديدة.
اذكر كيف
كانت المقالات مزعجة للبعض
والذين رفضوها، ولكنهم في نهاية المطاف انصاعوا للحقيقة
وللتاريخ وللمعطيات، وبالتعلم من أن الثورة لا تصنع في المخيلة ولا التغيير يأتي فجأة بالأمنيات والتمرد والرفض الأعمى.
كانت مقالاتنا نبضا ووجعا وبكل مقاييسها، أثارت ضجتها
وأسئلتها ونهوضها عند لحظة الغليان
قبل حالة الفيضان والتبخر، لكون
هناك من الجماعات التي رأت في الميثاق
خلاصها أو عدم خلاصها فسقط
الطرفان في «الحدية» الطرفية الأقرب لحافة الهاوية، فيما
كنا نرى أن الميثاق بنصوصه الأفضل وعلينا أن نمارس كيفية التطوير
والتغيير، مثله مثل الديمقراطية التي بحاجة لدروس ومعلم، لمناخ ومسافات وثقافة متجددة، لتناقضات ممكنة وتناقضات لا يمكن
حلها والدخول فيها
بحثا عن العلاج دون كلل أو
تراجع، فكل الصدامات التاريخية تحركت بين خطين متصارعين أفرزت
ثالثهما جديدا وحمل في رحمه جنينه القادم.
الميثاق يشكل لي اليوم من عمري الشخصي سياسيا هو مرور عقد على تذوقنا
للحرية في وطننا،
والشعور بأنك تمر من بوابة
المطار بابتسامة ملونة، تمر عبر الأشعة السينية والأجهزة ولكنك
تقبلها لكونها لا تمسك بسوء دون معنى. الميثاق أعطانا كما أعطيناه الحرية
المتبادلة والأمان، حتى وان مرت على تلك السنوات التسع من الميثاق رياح
ساخنة وومضات عابرة نقلتنا بين الشك واليقين، لكي ينتصر في النهاية فكر
اليقين على فكر الشك بأن الميثاق والديمقراطية والتنمية مستمرة برغم العثرات لأنها خيار البحرين الاستراتيجي، ومرهونة
حيوية المشروع والميثاق الجزء الأساسي منه، بما نمارسه
ونستوعبه ونحاول الولوج فيه بتلك
الصدمات الكهربائية المزعجة
لعلاجنا القديم، المسكون بهاجس الأمن والخوف من الغد وتدهور
الحريات وضياع شعب وتاريخ بأكمله دون فائدة.
لهذا ترتفع
الأصوات المتشائمة لكونها لا
ترى إلا نصف الكأس، ولكنها تحتار أيهما تختار الفارغ أم
المليان ؟!، فمحور العين متمركز عندها في احد النصفين، وهنا علة الرؤية للأشياء ولمدى معرفة المسافات، معرفة استقامتها
في الاعوجاج أو
اعوجاجها في الاستقامة، فنحن
بعد ما يقرب من عقد للمشروع الإصلاحي ما زلنا ننتظر الكثير
من المن والسلوى، والتي لا تأتي بقبس من فوهة الجبل، وإنما بتدمير القديم
المتهالك وكل ما هو لا يجوز وبتطوير كل ما هو ممكن وعلينا إصلاحه، مثلما
هو اليوم ضجيج الناس المسحوقين بفكرة استملاك بيوت إسكانية بعد انتظار
طويل، فتاتي الولادة العجيبة ببيوت ذكية ممسوخة، ولولا فطنة القيادة
السياسية لمرارة الإجراءات العاجلة وإعادة تقويمها بشكل عاجل لاستمرت
الكارثة بتوليد كوارث حولها، فهل نفهم نصوص الميثاق كلها أو جزءا منها على الأقل حول معنى مقولة كرامة الإنسان البحريني،
فالكرامة موضوع هام
للغاية في ضمائر الشعوب
والحضارات، التي أنتجت في نهاية المطاف وثيقة حقوقية سامية
كحقوق الإنسان، والتي نرى جزءا منها في الميثاق ساطعا ومحسوسا.
صوتنا للميثاق مثلما كتبنا عنه
عندما كان البعض عدوانيا معنا،
وكتبنا عندما بدا المختلفون
ثوارا والذاهبون إلى الوادي خونة، لأننا بتنا نرى كل حسب
تجربته وزاوية الرؤية المحفورة في دماغه وروحه، وليس حسب صنمية الأشياء السائدة في ديمومة الجمود والغليان الكاذب. زمن
الميثاق هو زمن
الحرية ولا يمكننا فصلهما عن
بعض، وكلما تراجعت الحرية فإننا بوعي أو بدون وعي ندوس
بأقدامنا على الميثاق وروحه، وكلما فتحنا فضاء الميثاق ومارسنا نصوصه فتحنا أفقا للحرية لا متناه في الزمن إلى حد
الكمال الأفلاطوني. الزمن الذي بدأ بالميثاق في»مدينتنا» ولكنه
لن يتوقف بفعل الحرية.
الأيام 21 فبراير 2010