أوّل من اعترف بـ أنطون تشيخوف (1860- 1904) كاتباً حقيقياً هم الأدباء تحديداً، أمثال لِسْكوف أوّلاً، ثم غريغورَفِتْش، وليس النقّاد. وإذا ما
أخذنا بترتيب ذلك الزمان، فهناك غارشِن، وصَلْتِكوف شِّدْرين، وكورولينكو الذي ظلّ يعترف به طيلة حياته. هؤلاء جميعاً كانوا يختلفون عن
تشيخوف بمكوِّنات الكتابة، وفي أكثر الأحيان بالنظرة إلى العالم، غير أنهم كانوا يعترفون بأنه “يقوم بانقلاب في الأدب”، حسب التعبير الذي كان
غريغورَفِتْش أوّل من أطلقه. بعد ذلك سيقول ليف تولستوي: “تشيخوف هو بوشكِن ناثراً”. وفي القرن العشرين يضع باستِرناك، بالأحرى بطله
يوري جيفاغو، تشيخوف وبوشكِن في مرتبة واحدة. أمّا ميرِجكوفْسكي فلم يكن بهذه القطْعية، ولكنه
قيِّم تشيخوف عالياً، وكتب عدة أعمال رائعة
عنه. بينما لم يكن النقد يفهم تشيخوف، كما لاحظ كورْنِي تشوكوفسكي، واستمرّ على هذا الحال من عدم الفهم مدة خمسة وعشرين عاماً.
وكان بين أقران تشيخوف ومعاصريه حسّادٌ صغار، وناسٌ على قدْر كبير من المحدودية، مصابون بعقدة ساليِيري. فقد وقعت، مثلاً، حادثة تشبه
النكتة. إذ بينما كان تشيخوف يصعد الدَّرَج في مبنى “مجلس الأَشراف” إذ بنظره يقع على كاتبين واقفين في صحن السلَّم، هما: الكاتب المسرحي
وجِين، والكاتب بَتابينكو. كان يوجِين ممسكاً بزرِّ بَتابينكو وهو يقول له: “فلتعلمْ أنّك أنت الأوّل في الأدب الروسيّ اليوم”. وفجأة رأى تشيخوف صاعداً، فأردف مسرعاً: “وهو، طبعاً، وهو طبعاً”!
مّا في القرن العشرين فقد تغيَّر الحال، وجاء الجديد، جاء إلى عالم الأدب كوكبة جديدة من الكتّاب، موجة جديدة، هي ما نسمّيه بالعصر الفضِّيّ،
فأخذت المواقف من كتّاب هذا العصر الفضِّيّ تنحو منحى آخر تماماً. لقد كان هؤلاء ينظرون إلى تشيخوف نظرتهم إلى شخص كرَّسته التقاليد،
شخص يتناقض مع كثير ممّا جاؤوا به إلى الأدب ومعهم في الحياة.
يجوز القول إن كتّاب اتجاه معيَّن لم يتقبّلوا تشيخوف بالمرّة، وكتّاب اتّجاه آخر تقبّلوه. والأرجح هو أنّ المسألة كانت فردية في كلّ حالة من تلك
الحالات، وإن كانت تظهر تكتلات غريبة ضدّ تشيخوف. إذ يمكن القول، مثلاً، إنّ الشاعرات الأبرز الثلاث: زيناييدا غيبيؤوس، وآنّا أخْماتَفا،
ومارينا تْصفيتايِفا، كنَّ لا يطقنَ ذِكر تشيخوف. غير أن كلاً منهنَّ كانت تفسِّر موقفها منه على طريقتها، وهذا ما أسفر عن سلسلة كاملة من
الكتابات التي تفسِّر نفور النساء الشاعرات من تشيخوف. فإذا ما أخذنا الرمزيين وجدْنا الأمور مختلفة كلها. إذ كان أندريه بيلي مستعداً تقريباً
للاعتراف بأنّ تشيخوف أوّل الرمزيين في الأدب الروسي. وظلَّ ألكساندر بلوك ردحاً طويلاً من الزمن لا يُفصح عن موقفه من تشيخوف إلى أن
شاهد “الأخوات الثلاث” في المسرح الفنّي فأصيب بالذهول، وقال فيما بعد إنه “تقبَّل تشيخوف وأحلَّه في روحه إلى الأبد”. أمّا فاليري بريوسَف
فبالعكس، لم يتقبَّل تشيخوف، وظلّ على هذا الموقف، وكان ينوي كتابة مقالة ضدّ “بستان الكرَز”.
ولعلّ آراء الأَكْميِّين بـ تشيخوف كانت أكثر تجانساً. ذلك أن آنِّنسكي الذي مهَّد لهم الطريق كتب مقالة شهيرة يقارن فيها تشيخوف بـ دَستَيِّفسكي
وتولستوي، فيشبِّه هذين الأخيرين بـ “قمَّتَي جبلين، بسنديانتين جبّارتين”، ويصف الأوّل بأنه “جُنَينةٌ من الأزهار الملوّنة”. على أن في مقالته
عن”الأخوات الثلاث” ما يُشعِر بأن هذه المسرحية لامست أعماق روحه كفنّان وكإنسان. فقد أدرك أنّ “الأخوات الثلاث” وكلّ ما يكتبه تشيخوف إنما هو عن أبناء جيله.
لقد أثار نفور أخماتَفا من تشيخوف أكبرَ قدْر من الاهتمام بين معارفها ومن كانوا يلتقون بها. فكتَب عن هذا الموضوع كلّ من أناتولي نايمَن وليف
لوسِف، ثم كوشنِر، ونَتاليا إيليِنا على وجه الخصوص، وليديا تشوكوفسكَيا، وجميعهم كانوا معجَبين أشدَّ الإعجاب بـ تشيخوف وبـ أخماتَفا على حدٍّ
سواء. هؤلاء كان يتعذّر عليهم فهمُ هذا النفور. ويمكن القول إنهم كانوا ممزَّقين بين هذين المعبودَين، وكان لكلٍّ منهم حُجّته. بعضهم كان يعتقد بأن
أخماتَفا تسعى إلى أن تزيح ما كانت هي نفسها قد نشأت منه. كانت ترغب بالخلاص من ذكرياتها عن طفولتها الريفية، الخلاص من الفتاة الريفية
آنيا غورينكو (كنيتها الحقيقية). وكانت كتابات تشيخوف تحول بينها وبين تحقيق ذلك. على أن أولئك الذين كتبوا مذكراتهم عن أخماتَفا أشاروا هم
أنفسهم إلى أن أشعار أخماتَفا مبنية في كثير منها وَفقاً لقوانين المكوِّنات التي تقوم كتابات تشيخوف عليها: نمط العيش، التفاصيل المأخوذة من
الحياة اليومية، واكتشاف الشعر في ذلك كله ـ إنه الموروث التشيخوفي الذي تقتفي أثره بجلاء. وكان هناك تفسير آخر. فكثيراً ما يحدث أن يرى
كاتبٌ ما أن الخلاص كامن في القطيعة مع من يؤثِّر عليه. كما يوجد تفسير ثالث، وهو ينطبق على تْصفيتايِفا أيضاً، فحواه أن هذا الموقف ناتج عن
قراءة تشيخوف قراءة سطحية، عابرة. إذ تشير تْصفيتايِفا إلى قصتين أو ثلاثٍ من قصص تشيخوف، ما يخلق انطباعاً بأنها لم تقرأ له شيئاً آخر،
ولكنّ ما قرأته كان يبعث فيها النفور. فقد كانت تقارن، مثلاً، بين نثر تشيخوف والنثر الذي كتبه باسترناك شديد التعقيد في مطلع شبابه. وهنا يمكن
للمرء أن يفهمهم، لأنّ أنصار تشيخوف، أولئك الذين كانوا يَعُدّون أنفسهم معجَبين به ويكرِّسون أساطير المثقّفين عنه، كان رأيهم على درجة من
القوّة تستدعي نفور غير المعجبين بـ تشيخوف. على أنّ فلاديمِر ماياكوفسكي في شبابه، وهو المعروف بالتمرّد وتحطيم كلّ شيء، كتب مقالة
بعنوان “تشيخوفان اثنان”، بدأها تحديداً من القول بأنّ الناس ينظرون إلى تشيخوف عادة بوصفه محامي المُذّلّين والمُهانين، ومُغنّي الحزن
البشريّ. كلاّ، – يقول ماياكوفسكي، ـ إنّ تشيخوف واحدٌ من ملوك الكلمة، فنّان / مجدِّد، كاتبٌ أعطى اسماً جديداً لكلّ شيء يحيط بنا، أعطى
مبادئ جديدة لبناء الجملة…إلخ. ففي نظر ماياكوفسكي الفنّانِ / المجدِّد، كان تشيخوف غالياً ورفيع القيمة لهذه الأسباب. علماً بأنّ ماياكوفسكي
نفسه لم يكن يتقبّل مسرحيات تشيخوف.