الرأسمالية، بتشكيلاتها المختلفة، الكلاسيكية (نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، والهجينة المائلة لتطعيم اقتصادياتها ونهمها الجشع بأبعاد اجتماعية تخفيفية وتلطيفية - نموذج الرأسمالية الألماني والاسكندينافي منذ منتصف القرن العشرين الماضي)، والأخرى البالغة التحرر لحد التوحش (نموذج الرأسمالية الأمريكية الذي لم يحاول قط الاعتبار بالمكون الاجتماعي للفكر التنموي المعاصر) - نقول الرأسمالية كنظام اقتصادي اجتماعي ظلت على مدى التاريخ المعاصر للمجتمع البشري وتحديداً القرون الأربعة الأخيرة، هي النموذج التنموي الوحيد الأكثر ثورة في إحداث التحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية الكبرى والعميقة شكلاً ومضموناً، خياراً أصيلاً ومستقبلياً لنهوضها التنموي الشامل، وذلك بما توفره من فرص لإطلاق المبادرة الاقتصادية والابتكار والإبداع وتحقيق الذات.
ولم يواجه النظام الرأسمالي الذي نجح كنموذج في التحول للعالمية بعد توحيد الأسواق العالمية على أسس الحرية الاقتصادية، لم يواجه على مدى القرون الثلاثة السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر، أي تحدي يذكر من جانب نموذج تنموي يمكن أن يطرح نفسه بديلاً جدياً للنموذج التنموي الحر أو الليبرالي. حتى جاء القرن العشرين وحمل لهذا النموذج أول نظام اقتصادي اجتماعي يطرح نفسه بديلاً أكثر نجاعة وأكثر عدالة للإنسان والحضارة المعاصرين، وهو النموذج الاشتراكي الذي ظهر أولاً في روسيا في عام 1917 ومن بعد في عدد من البلدان الأوروبية والبلدان الآسيوية والأفريقية واللاتينية.
وتشاء المصادفات التاريخية أن يكون ظهور هذا الخيار النهضوي البديل بمثابة أول محفز للرأسمالية، كنظام سياسي – اقتصادي، لكي تجدد نفسها. وهو ما حدث بالفعل، حيث ظهر النموذج الألماني للرأسمالية الاجتماعية والنماذج الاسكندنافية التي زاوجت بين حرية الأسواق والأبعاد الاجتماعية والإنسانية للاشتراكية.
إلا أن هذا التغيير وهذا التجديد والتحديث لم يطل نموذج الرأسمالية الأمريكية، وهو أمر نعزوه جزئياً إلى الدور القيادي الذي اضطلعت به الولايات المتحدة على مدى 72 سنة هي عمر الاتحاد السوفييتي، لاسيما إبان الحرب الباردة (1946-1991) في محاربة الاتحاد السوفييتي واشتراكيته المبشرة بالملكية العامة على حساب الملكية الخاصة. وهذا ما جعلها (أي الولايات المتحدة) تتقوقع على نفسها وتتخندق لصد الهجمات الإيديولوجية والحيلولة دون تسرب وتغلغل النفوذ السوفييتي داخل ‘قلعتها الحصينة’، تماماً كما تقوقع وتخندق الاتحاد السوفييتي داخل صومعته، دون أن توفر كل منهما (الولايات المتحدة ومنظومة الاتحاد السوفييتي) لنفسيهما فرصة إعادة تقييم وتطوير وتحديث نظامهما اللذين نال منهما التقادم وعدم مواكبة مستجدات واستحقاقات العصر.
ومن عجائب الصدف أن تتاح للنظامين المتضادين فرصة متزامنة لكل منهما للإصلاح وإعادة البناء، إلا أن الاثنين فرطا فيها، وقد كان من الممكن لو استغلاها أن لا يكونا قد وصلا إلى المصير الذي انتهيا إليه.
في مطلع ستينيات القرن الماضي وتحديداً خلال الفترة مــــــن 1961-1963 انتخـــــــــب الشعــــــــب الأمريكي المرشح الديمقراطي من ولاية ماساشوسيتس جون كنيدي. وقد جاء الرجل ومعه فريق عمله الحكومي بطموح لإحداث نقلة نوعية في الحياة السياسية والنظام السياسي الأمريكي. إلا أن خططه لإصلاح الاقتصاد وإبرام اتفاق رئيس مع الاتحاد السوفييتي لخفض الأسلحة الاستراتيجية ذهبت أدراج الرياح، حيث كان قد ألقى خطاباً مميزاً بعد انتهاء أزمة الصواريخ الكوبية مع الاتحاد السوفيتي في عام 1962 أشاد فيه بالدور الرائع الذي لعبه الاتحاد السوفييتي في إلحاق الهزيمة بالنازية في الحرب العالمية الثانية، وشهدت هذه الفترة انفراجاً غير مسبوق في علاقات البلدين قام خلالها الرئيس السوفييتي نيكيتا خروشوف بزيارة للولايات المتحدة استمرت ثلاثة عشر يوماً، تم خلالها إبرام اتفاقية للحظر الجزئي للتجارب النووية عام .1963
إلا أن ما أسماه الرئيس الأمريكي الأسبق دوايت أيزنهاور بالمجمع الصناعي الحربي وما حذر من مخاطره على الديمقراطية الأمريكية، كانت له، وعلى ما يبدو، كلمة أخرى، إذ شاء أن يضع نهاية برصاصات غادرة لحياة وطموحات الرئيس كيندي، وأن يسدل الستار على أول محاولة جدية من داخل النظام الأمريكي لترشيده وعقلنته من خلال عملية بناء (بيريسترويكا) تمنح النظام مزيداً من مصادر القوة والمنعة وتوفر له فسحة أرحب للتطور والتعامل مع التحديات المستجدة.
في الاتحاد السوفيتي السابق أيضاً تقلد نيكيتا خروشوف منصب زعيم الحزب الشيوعي الحاكم ورئاسة الدولة في عام 1953 إثر وفاة جوزيف ستالين. وقد استمر حكم خروشوف حتى عام 1964 (أي إلى ما بعد عام من اغتيال كنيدي). وقد تميز حكم خروشوف بمعادة الستالينية وإرساء الدعائم الأولى لسياسة الانفراج الدولي والتعايش السلمي، أبرم خلالها مع الرئيس كيندي اتفاقية الحظر الجزئي للتجارب النووية في عام 1963 كما أسلفنا. كما عمل خروشوف على تحسين الأوضاع المادية للسكان والإفراج عن المعتقلين السياسيين وتطوير القطاع الزراعي. أما ضربته الكبرى فكانت تلك التي فجرها في المؤتمر العشرين للحزب في عام 1956 حين فاجأ الجميع بإعلان الحرب على الستالينية وتطوير الديمقراطية وتقوية الشرعية للنظام السوفيتي.
ولكن وكما حدث مع كينيدي فلقد تمت تنحية خروشوف بصورة مفاجئة وسريعة في الأسبوع الأول من أكتوبر من عام 1964 بعد أن استدعاه المكتب السياسي إلى موسكو من شبه جزيرة القرم حيث كان يقضي إجازة هناك، ووجه له أعضاء المكتب السياسي اتهامات بأنه لا يحقق العدالة الاشتراكية ولا يقيم وزناً للمسؤولية الجماعية، وطلب منه سوسلوف الاستقالة، إلا أنه رفض تقديم استقالته. وفي الرابع عشر من أكتوبر تمت تنحيته من جميع مناصبه فانعزل من يومها في عزبته الريفية حتى وافته المنية في 11 سبتمبر .1971
بعد وفاة خروشوف بعشرين عاماً انهار الاتحاد السوفييتي على يد الرئيس ميخائيل غورباتشوف الذي أراد إصلاح الإعطاب في النظام ولكن بطريقته الريفية الغوغائية، حيث تعامل مع هيكل ومؤسسات الدولة على طريقة الأطفال حين يعجزون عن إكمال بناء اللعبة فينثرونها يأساً وكمداً من عدم التوفيق في إتمام البناء.. فهدم ‘المعبد’ على رؤوس الجميع.
اليوم هناك في الولايات المتحدة الأمريكية ‘غورباتشوف’ أمريكي اسمه باراك أوباما. هذا الرئيس الذي وصل كالحلم لسدة الحكم في البيت الأبيض يحاول إحداث تغيير نوعي في النظام الأمريكي.. تغيير يرقى إلى مستوى البريسترويكا الغورباتشوفية. فهل سيكتب له النجاح أم أنه سيلاقي المصير الذي انتهى إليه كيندي وخروشوف؟
هذا ما سنحاول الإجابة عليه في المقال القادم..
صحيفة الوطن
20 فبراير 2010