ليست المرة الأولى التي يجري فيها الحديث عن واقع ان التجارب الانتخابية في غير بلد عربي لا تؤهل القوى المدنية والتحديثية إلى مواقع التمثيل الشعبي. وهي ظاهرة واضحة في البلدان التي ولجت طريق التحول نحو الديمقراطية وأجرت انتخابات بلدية ونيابية انطوت على قدر معقول من النزاهة، حيث إن القوى المحافظة والتي تبدو في الكثير من أطروحاتها على «يمين» الأنظمة الحاكمة هي من يكون له حصة الأسد في هذه الانتخابات بالصورة التي تجعل من توصف بـ “القوى الحديثة” خارج مؤسسات التمثيل الشعبي.
يمكن أن تثار في هذا السياق أسئلة عديدة أخرى من نوع: كيف يمكن التعاطي مع العملية الديمقراطية إذا كانت ستدفع إلى صدارة المشهد السياسي قوى غير ديمقراطية، أو فلنقل قوى تستخدم الديمقراطية مطية لهذا الصعود، وهو أمر قابل لنقاش معمق شريطة ألا يذهب نحو منحى رفض الديمقراطية ذاتها كقيمة إنسانية وكأسلوب في الحكم وفي الأداء السياسي.
إن آلية الديمقراطية ذاتها هي ما يسمح باحتواء مخاطر معاداة الديمقراطية من داخلها، وطالما كانت القوى التي توصف برامجها بالمحافظة أو الرجعية خارج اللعبة الديمقراطية فالأرجح أن هذا يعطي مواقفها رواجاً وجاذبية، خاصة حين تظهر بمظهر الضحية، لكن الاندماج في العمل السياسي من خلال أدوات الديمقراطية، وفي مقدمتها الترشيح والانتخاب للمجالس المحلية والبرلمانية جدير بأن يعقلن خطاب هذه القوى ويدفعه أكثر فأكثر نحو الوسطية والاعتدال.
ولنا في التجربة التركية خير مثال، فتركيا اليوم تحكم من قبل حزب إسلامي ولكنه يحظى بالتقدير داخل وخارج البلاد لأنه يراعي حقائق الوضع السياسي الداخلي والدولي ويتعاطى معه بمرونة وتبصر، ويطور خطابه وأداءه على ضوء إدراك التعقيدات الكثيرة المحيطة بالعمل السياسي.
يبقى أن عجز القوى المدنية أو التحديثية عن أن تجد لها مكاناً في مواقع التمثيل الشعبي هو في الغالب من أعراض هذه المرحلة الانتقالية، لأن أية موجة لابد أن تأخذ مداها كاملاً، ولكي يحدث ذلك عليها أن تضع برامجها على محك التطبيق القرين بأن يكشف محدودية الكثير من هذه البرامج وانسداد أفقها، مما يؤهل قوى الحداثة والمستقبل لأن تحضر نفسها بوصفها بديلاً ديمقراطياً، يقارع عبر الوسائل الديمقراطية ليبرهن أنه قادر على أن يكون فعلاً هو البديل، ليس عبر التعالي على المجتمع وإنما بالمزيد من الانخراط فيه.
وهذا يتطلب بدرجة أساسية تبني القضايا الحيوية للناس، من خلال الدفاع عن حقوقها في حياة حرة كريمة، بإعادة الاعتبار للخطاب المطلبي الذي يتوجه لكل الفئات والطوائف، ويوحد المجتمع كله إزاء قضية عامة مشتركة، كما كان حال نضال الحركة الشعبية يوم كان الناس جميعاً يتوحدون على هذا النوع من القضايا، وعلى هذا النوع من العمل المطلبي العام الذي يعني الجميع، ويشمل الجميع ويتوجه نحو الجميع، وإلى هذا النوع من العمل بالذات تكرست التقاليد الحميدة في تراثنا الوطني الديمقراطي العابر للطوائف وللفئات، الذي يُعلي من شأن القضايا الاجتماعية المشتركة، ويبرز البعد الاجتماعي – المعيشي اليومي الحيوي للناس.
وهذا يعني ضرورة ربط قضية الإصلاح السياسي بقضية الإصلاح الاقتصادي – الاجتماعي، فغاية المشاركة السياسية المنشودة يجب أن تكون إسعاد الناس وتلبية احتياجاتهم.
صحيفة الايام
15 فبراير 2010