مؤتمر لأفغانستان وآخر لليمن عقدا بالتزامن في العاصمة البريطانية لندن، الأول يوم الجمعة التاسع والعشرين من يناير الماضي والثاني يوم الأربعاء 27 يناير.
فما هي قصة هذه المؤتمرات التي ما أن تصدر الدعوة لعقدها من جانب إحدى العواصم الغربية الرئيسية التي لازالت تسيطر على ‘صناعة’ مسارات الحياة الدولية وتتحكم في مفاتيح ‘طبخ’ وصياغة قرارات أحداثها المصيرية، حتى يهب المدعوون لتلبية تلك الدعوة والتهيئة السياسية والإعلامية والمالية لمقابلة شروط المشاركة فيها والإعراب عن الاستعداد للتعامل مع المنظمين من أجل إنجاح الاجتماع أو المؤتمر المكرسة له الدعوة.
في حين لم تلق مثلاً دعوة روسيا وتحركاتها الدبلوماسية الرامية لعقد مؤتمر دولي في موسكو حول القضية الفلسطينية سوى الصدود واللامبالاة. فقط لأن الدعوة الروسية لعقد هذا المؤتمر لم تحظ بمباركة واشنطن التي لا تسمح لأية دولة مهما كانت أن تقاسمها الجهود (التي تترجم في مفهوم وجوهر العلاقات الدولية نفوذاً) الدولية (التي تتزعمها بطبيعة الحال) والرامية لإيجاد حل لقضية الصراع العربي الإسرائيلي.
تحتاج العواصم الغربية، وخصوصاً العاصمة الأمريكية، لبضعة أسابيع وحسب لعقد مؤتمر أو اجتماع دولي طارئ للتداول بشأن مستجد طرأ على الساحة الدولية له اتصال مباشر أو غير مباشر بالمصالح الغربية عموماً وبمصلحة الدولة الداعية خصوصاً.
حتى الأمم المتحدة، ما أن تصدر الدعوة من هذه العاصمة الغربية أو تلك، خصوصاً العاصمة الأمريكية، فإنها لا تكتفي بالمسارعة لتلبيتها وإنما التبرع لتوفير الغطاء الشرعي الدولي لها، والمشاركة الفاعلة في ترتيبات وإجراءات انعقادها.
فكم من هذه المؤتمرات والاجتماعات غير الاعتيادية شهدتها المدن الأمريكية والعواصم الغربية وبعض مدن ومنتجعات منطقة الشرق الأوسط مثل شرم الشيخ وغيرها بناءً على دعوات صادرة من إحدى عواصم الغرب الحاكمة للنظام الدولي؟
على هذه الشاكلة وعلى هذا المنوال تمت الدعوة وتم الترتيب لعقد المؤتمرين الخاصين باليمن وأفغانستان في العاصمة البريطانية لندن، وذلك في استجابة سريعة لرغبة أمريكية مؤزَّرة بدعم بريطاني وأطلسي.
أما الدعوة للمؤتمر الذي كرِّس لليمن فجاءت كرد فعل على ثبوت تلقي الإرهابي النيجيري عمر فاروق عبدالمطلب الذي حاول تفجير طائرة مدنية تقل أكثر من 300 راكب فوق ولاية ديترويت الأمريكية يوم عيد الميلاد، تدريبات وتجهيزات في اليمن على أيدي عناصر تنظيم القاعدة هناك.
وأما الدعوة لعقد المؤتمر الخاص بأفغانستان فلقد جاءت في أعقاب فضيحة تزوير الانتخابات الرئاسية الأفغانية وتكشُّف حجم الفساد الذي ‘ترفل’ فيه حكومة الرئيس حامد كرزاي، حيث ارتفعت أصوات إعلامية وحزبية في عواصم ‘النيتو’ تطالب بإعادة النظر في سياسة بلدانها والتزاماتها العسكرية والمالية تجاه أفغانستان، واتهمت هذه الدوائر الساسة الغربيين بأنهم يلقون بالجنود الغربيين في أتون معركة للدفاع عن نظام فاسد لن يتمكن بحالته الرثة الراهنة من تسلم مهام حفظ الأمن والنظام من قوات النيتو بعد أن تعلن انتهاء مهمتها العسكرية ‘بتكسير عظام’ حركة طالبان وإضعافها عسكرياً وبشرياً.
المؤتمران المتزامنان اللذان عقدا ـ كما قلنا ـ بناءً على قرار مراكز صناعة القرار الدولي، وتحديداً النظام السياسي الحاكم في البيت الأبيض، يستجيبان لمصالح ودواعي أمنية وسياسية واقتصادية غربية تكتسب صفة الاستعجال، وتنم عن ورطة حقيقية واقعة فيها الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في حلف شمال الأطلسي ‘نيتو’ في الحرب التي تخوضها منذ حوالي عقد ضد تنظيم القاعدة وتفريخاته من التنظيمات الإرهابية.
فبعد أن كانت ساحة الحرب بين الطرفين تقتصر على أفغانستان فإن القاعدة وبعد أن خسرت مستقرها ومركز تواجدها وانطلاق عملياتها الخارجية في الحرب الخاطفة التي شنتها الولايات المتحدة ضد أفغانستان مباشرة بعد تفجيرات واشنطن ونيويورك الإرهابية في 9 نوفمبر ,2001 عمدت للبحث عن ملاذات آمنة جديدة تعوض بها جزءاً من خسارتها الكبرى في أفغانستان التي احتلها الأمريكيون بعد أن أسقطوا نظام طالبان الحليف الوثيق للقاعدة وأقاموا فيها نظاماً موالياً للولايات المتحدة.
فطالت استهدافاتها عدداً من البقاع التي تتوفر على حد أدنى من شروط النشوء والتموضع والانتشار. فكان المغرب وتحديداً بعض مناطق أحزمة الفقر والعشوائيات فيه هدفاً. وعندما قوبلت محاولة القاعدة هذه بضربة قاصمة من قبل أجهزة الأمن وقوى المجتمع، حولت محاولتها لموريتانيا وجوارها الصحراوي الممتد إلى الداخل الـ ‘مالي’ وبعض الدول ذات الغالبية أو الأقلية المسلمة في غرب وشرق أفريقيا. ومازالت هذه المحاولة مستمرة رغم عدم تحقيقها أي نجاح يذكر حتى الآن (في غرب أفريقيا، بالإضافة إلى مالي المترامية الأطراف والمحاذية لموريتانيا المستهدفة قبلاً، تحاول القاعدة مد نفوذها وخلق مواطئ قدم لها في النيجر ونيجيريا وصولاً حتى تشاد في وسط أفريقيا. وفي شرق أفريقيا فإنه بالإضافة إلى الصومال الممزق تعمل القاعدة على مد نفوذها وتواجدها إلى كينيا وإريتريا. وكان أحمد أغ أبيبي رئيس التحالف الديمقراطي في مالي الذي يمثل قبائل الطوارق الصحراوية قد حذر في تصريح له لإحدى الصحف العربية الصادرة في لندن يوم الرابع والعشرين من الشهر الماضي من احتلال القاعدة والجماعات الإسلامية المتطرفة للصحراء الغربية بعد تسليم الطوارق أسلحتهم وإخلاء مواقعهم في الصحراء في كل من مالي والنيجر).
وكانت القاعدة قد استثمرت جل طاقاتها المالية والبشرية من أجل الفوز بالعراق، الذي راهنت عليه ليس لتعويض خسارتها في أفغانستان وإنما ‘الكنز’ الأعظم الذي سيمول ‘غزواتها’ في الجوار والآفاق. ولكن هذه المرة أيضاً كان الإخفاق الذريع نصيبها بعد أن انتفض أهالي المناطق العراقية التي كانت أخضعتها لسيطرتها، وهي التي كانت راهنت على الفوضى التي عمت العراق في أعقاب سقوط النظام السابق. فلم تجد (القاعدة) سوى الصومال المهدّم الذي هجرته نخبته وعافته الأسرة الدولية، للعمل على تحويله إلى قاعدة بحرية لانطلاق عملياتها الإرهابية في أعالي البحار والمحيط الهندي خصوصاً والمناطق القريبة التي طالما شكلت هدفاً لعمليات التنظيم في السنوات العشر الأخيرة.
وفي ضوء معطيات جيوبوليتيكية، منها القرب الجغرافي للصومال من باب المندب وحالة الضعف والتفكك التي يجتازها اليمن، فقد اختارت القاعدة أن تعيد بناء وتنشيط معاقلها التي كانت أشادتها في اليمن خصوصاً في المناطق الجنوبية. وقد تم ذلك على مرأى ومسمع من الجميع بمن فيهم الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون الذين لم يتحركوا لوقف تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية وانحدار الدولة نحو مهاوي الفشل على غرار زمرة ما تسمى بالدول الفاشلة (Failed States)، إلا بعد أن قام الشاب النيجيري الغر عمر فاروق عبدالمطلب (19 عاماً) بمحاولة تفجير إحدى طائرات الركاب المدنية التي كانت في رحلة من أمستردام إلى ولاية ديترويت الأمريكية يوم عيد الميلاد 25 ديسمبر ,2009 قبل أن يُكتشف أمره بدقائق قبل عملية التفجير في سماء الولاية، وبعد أن اتضح أن العملية برمتها قد تم التخطيط والتجهيز لها في اليمن.
بمعنى أنه لولا هذه الحادثة لما انعقد مؤتمر لندن الذي كُرس لمناقشة تصاعد خطر القاعدة على البلدان والمصالح الغربية. بدليل أن المؤتمر الذي دعيت للمشاركة فيه 24 دولة ما بين مقررة وأخرى مانحة، أعلن في ختام اجتماعاته التزام كافة المشاركين بدعم اليمن في حربه ضد تنظيم القاعدة، و’دعم المجتمع الدولي لليمن لاجتثاث الإرهاب من جذوره’ كما قال ديفيد ميليباند وزير الخارجية البريطاني. ومع أن اليمن قدم في المؤتمر ما يشبه فاتورة حساب اشتملت على احتياجاته الإنمائية في مجالات البنية التحتية والصحة والتعليم والطاقة، إلا أن المشاركين الذين يعون بالتأكيد هذه التحديات التي تواجه اليمن دون أن يبذلوا جهداً صادقاً وجاداً إزاءها، لم يقدموا لليمن أي ضمانات بهذا الخصوص. فهم يريدون من الحكومة اليمنية أن تخلصهم بإمكانياتها الذاتية وبمساعدة منهم محدودة، من خطر القاعدة.
صحيفة الوطن
13 فبراير 2010