بعد أن صادق جلالة الملك قبل أيام على الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد وانضمام البحرين بهذه الخطوة الى 121 دولة التي صادقت والتزمت بالمقتضيات والتدابير التي تفرضها هذه الاتفاقية ، هل يمكن أن نشهد جهداً وطنياً حقيقياً ونوعياً وغير مسبوق يناهض الفساد ويفعل الشراكة التي تشدد عليها الاتفاقية بين كل مكونات المجتمع وجعل هذه المهمة والمسؤولية في صدارة أولويات العملية الإصلاحية .
الاتفاقية في مقدمتها تؤكد بأن انضمام أي دولة إليها يعني التزاماً سياسياً وإدراكاً لمدى خطورة آثار الفساد على الاقتصاد وقضايا التنمية المستدامة، وهي تشير بوضوح الى خطورة ما يطرحه الفساد من مشاكل ومخاطر على استقرار المجتمعات وأمنها وتقويضه للمؤسسات الديمقراطية والقيم الأخلاقية والعدالة ويعرض التنمية وسيادة القانون للخطر.
هذه الاتفاقية الدولية لابد أن يدرك الجميع بأنها تفرض التزامات بقدر ما تفرض تحديات، فعلى الصعيد الأول لابد للسلطة التنفيذية البدء سريعاً وبدعم من السلطة التشريعية المباشرة في تشكيل هيئة وطنية عليا لمحاربة الفساد وتعديل القوانين النافذة وسن تشريعات جديدة تصب في إرساء مبادىء النزاهة والشفافية، وتبني استراتيجية محكمة تستهدف رفع مستوى الشفافية في عمل الدول ومؤسساتها، وتوفر المساءلة القانونية والمحاسبة الصارمة للقائمين على أمور الإدارات الحكومية، وتتبنى إصلاحاً ادراياً، وقانوناً يقضي بالكشف عن الذمة المالية للمسؤولين بالدولة وهو أمر يعتبر مفصلاً مهماً في محاربة الفساد المالي والإداري وحتى السياسي، كما لابد في نفس السياق من إيجاد هيئات ومؤسسات رقابية ومحاسبية في غاية الكفاءة لكي تكون معنية بالمتابعة والتحقيق في مختلف القضايا التي تمس المال العام وكل ما يندرج في خانة الفساد من قرارات مالية وإدارية وأية ممارسات من هذا القبيل في القطاعين العام والخاص، بجانب مراجعة النظم المعنية بأملاك الدولة وتطويرها بما يكفل حفظ المال العام من النهب والتنفع غير المشروع.
تلك بعض الالتزامات التي تفرضها تلك الاتفاقية الدولية، وهي التزامات نفترض اذا ما تحققت على أرض الواقع ستجعلنا بمشيئة الله على أعتاب عمل نوعي طال انتظاره .. عمل لابد أن يضفي الجدية المطلوبة التي افتقدناها في معظم المبادرات والجهود التي سعت الى تفعيل قيمة المساءلة في ساحة الأداء العام . وأحسب أننا نعلم جميعاً بأن الوضع الحالي لمستوى الفساد لا يحتمل التصدي له أي تأخير، كما لا يقبل المزايدات ولا الشعارات من تلك النوعية التي بشرتنا بحرب ضد الفساد دون فعل ملموس يبعث على الارتياح.
أما فيما يخص التحديات فهي أيضاً كثيرة، فمحاربة الفساد هي بحد ذاتها مهمة كبيرة تكتنفها صعوبات ليست هينة على الإطلاق، ولكنها مع ذلك تعتبر من القضايا المحورية التي تواجه عملية الإصلاح والتطور الاقتصادي والتنموي، ومن هنا فإن أول وأكبر تحدٍ هو تفعيل التعاون الحقيقي المطلوب المعزز للقيم التي تستهجن الفساد وتدينه ولا تتوانى عن اتخاذ إجراءات رادعة وفعالة لمحاربة الفساد، تعاون يبدأ من السلطة التنفيذية ممثلة بكافة الأجهزة الرسمية بما فيها مجلس التنمية الاقتصادية برؤيته الاقتصادية، ومروراً بالسلطة التشريعية ثم السلطة القضائية، ثم الصحافة والإعلام وانتهاءاً بمؤسسات المجتمع المدني وقواه الفاعلة .. التحدي يكمن في كيف يقوم كل طرف بدور له وزن وله قيمة في إطار عمل وطني حقيقي يجعل محاربة الفساد قضية المجتمع البحريني بعيداً عن الطأفنة والشخصنة والحسابات الخاصة، على النحو الذي شهدناه حيال العديد من الملفات التي تم التعاطي معها من قبل نواب كثر الى الدرجة التي ولدت لدينا القناعة بأن البرلمان المعني بالرقابة على الأداء الحكومي بحاجة الى رقابة شعبية على أداء أعضائه، وهذا في حد ذاته تحدٍ لا ينبغي التهوين منه .
كما أن إشاعة ثقافة الثواب والعقاب، وإنهاء حالة التسامح مع الفساد والمفسدين هو تحدٍ من غير الحصافة تجاهله، خاصة اذا ما أمعنا النظر والتأمل في واقعنا ، حيث سنجده محملاً بتفصيلات كثيرة لا مجال للخوض فيها تشير إلى حالة التراخي والتسامح إزاء حالات عديدة كلها تندرج تحت ملف عنوانه الفساد، ولكن يبدو أن ثمة حسابات أو اعتبارات أو هدنة تؤجل أو تقرر مسألة الحسم والردع ، وما دام جلالة الملك الذي صادق على تلك الاتفاقية الدولية هو أيضاً الداعي الى الشراكة الشعبية في القرار الحكومي ، فإن المأمول أن يدفع ذلك الى بلورة جهد وطني حقيقي تقوده الحكومة ومجلس النواب وبمشاركة غير صورية لمؤسسات مجتمعنا المدني وقواه الفاعلة مناهض للفساد ، وإلا سنبقى في مكاننا نراوح .
صحيفة الايام
13 فبراير 2010