تصادفنا كل مرة غرائب الطباع، ومسالك عجيبة لا نجد لها تفسيرا في منطقة العقل. ففي الوقت الذي تتحرك عجلة التنمية في اتجاه البحث عن مشاريع واستثمارات خارجية، وتنفيذ مشاريع داخلية تنشّط عملية التنمية، بكل اتساعها الوظيفي والمالي، ومن ثم تطويرها بحيث تخدم الناس وتحسن أوضاعهم المعيشية، مهما كان حجم وطبيعة المشروع الاستثماري، حتى وان كان صغره سيوظف لنا عمالة بحرينية تنتظر عند بوابات وزارة العمل. إن الرؤية الاقتصادية تنتهي عند حدود عام 2030، ولكنها انطلقت منذ ولادتها في فهم رجال الساسة والاقتصاد والمال لأهميتها وتفعيلها، بشكل ينسجم مع الأماني والأهداف المنشودة في تلك الرؤى، طالما أن الهدف من كل تنمية هو الإنسان والوطن. من ينظر إلى مشروع منتزه دوحة عراد مجرد كونه مكانا للتنزه فهو صائب، ولكنه يخطأ إن اغفل أن تلك المشاريع الاجتماعية تنشّط حراكا آخر في الحياة الداخلية، فالمنتزهات مجتمع استهلاكي في نهاية المطاف، ويجذب معه وحوله مشاريع صغيرة مثلما يجذب سياحا من دول الجوار بعائلاتهم، وليس فقط سكان الدائرة الضيقة من عراد أو المحرق، فكلما نشطت المنتزهات بفاعلية عدة برزت حيوية الاقتصاد والمجتمع وعلاقاته بكل منظومتها المتداخلة، فليس في النهاية المنتزه مضمار للركض والمشي وحده. ومع ذلك يقفز لنا على خشبة الحياة صنف من الناس يرى في تلك المشاريع الإنسانية أولا والاجتماعية ثانيا والتنموية ثالثا، نوعا من اللهو والفجور أحيانا طالما ان الموسيقى ستترافق مع إيقاع مشي الناس وفرحهم. هؤلاء هم نفسهم الذين يتذرعون بحجج واهية ضد الموسيقى يعكسونها في عدائهم ورفضهم لإقامة مجمع تجاري في المحرق أو حتى غيرها، اليوم أو غدا، فهم يرون في مفردة الشريعة ملاذهم وقناعهم الجديد، وفي الأخلاق حجتهم المعادية لفكرة الفرح والاختلاط والتزاحم حسب مخيلتهم ووهمهم. وعندما يتم مناقشتهم إزاء رفضهم للمشاريع كالمجمع التجاري، تصبح مرة أخرى الإجابة ذاتها هو الشريعة الإسلامية!! مما يعني أن الشريعة هنا ليست محرقية أو مكانية، وإنما علينا أن ننسف تلك المجمعات التي شيدت وتشاد في البلاد ة نتيجة عملية الازدهار المستمر في اقتصادها وتنميتها. وطالما إن المشروع التجاري حرام بمنطق هؤلاء، فإننا بالضرورة علينا أن نحترم ديمقراطية الدائرة الانتخابية سكانيا وليس كما ينوي أو يرغب مجموعة من الناس، نجحت في تغرير بعض الأصوات برفع احتجاجها ضد اقتصادها الوطني، دون أن تدرك معنى وفلسفة الرؤية الاقتصادية البعيدة وغير المنظورة، إلا في ذهنهم لبعض الأنشطة الاقتصادية، والتي مرهونة بمنطق الحلال والحرام وماذا تقبله الشريعة وماذا ترفضه من وجهة نظر “شريعتهم” وليس الشريعة الرسمية للبلاد. وإذا ما كانت هناك “شرائع مناطقية!” فإننا سنجد أنفسنا محاصرين بذهنية هيمنة السواد الأعظم والأغلبية، حتى وان كان ذلك قمعا حقيقيا للاقتصاد والتنمية وللأقلية المحرومة من كل امتياز لمجرد أنهم باتوا أقلية. هذا القمع الجديد لمفهوم خاطئ لديمقراطية ناشئة يدفع بكل صنف من الناس، أقلية كانوا أو أكثرية، ممارسة أنماط القهر الاجتماعي على الناس وعلى بعضهم، ليس في بلدهم وحسب بل وفي محيطهم السكني الضيق. من يحاول باستمرار اجتثاث أو وأد مشاريع تنموية جديدة من الحجم الصغير أو المتوسط والكبير، عليهم إعادة قراءة الرؤية من زواياها المتكاملة، واستيعاب معنى إن ازدهار التنمية وتنشيط السوق الداخلية بشبكة من التسهيلات والاستثمارات الاقتصادية والخدماتية ومعنى توفير المستلزمات الضرورية للسكان وتفعيل حياتهم اليومية في مثل تلك الأنشطة الاقتصادية (المجمعات التجارية نموذجا). ويأتي اعتراضهم على الموضوع لبعد آخر هو خشيتهم من اللهو (وفق منطقهم) وتزاحم الناس (وفق منطقهم) فان مشروعهم في عزل المجتمع وتنقيب سلوكه الاجتماعي (وفق منطقهم) فهل هؤلاء المرعوبون من الاختلاط هم نفسهم المرعبون من المنتزهات والمجمعات كلها وليس في منطقة المحرق؟؟، والذين يخشون التحولات دون أن يمتلكوا شجاعة قولها ويهابون أن تمضي الأيام ليس لصالحهم “وسيادتهم المطلقة”، حيث كانوا قبل عشر سنوات من عمر الإصلاح يفتكون بكل من يفتح فمه معارضا ويضعون صناديقهم بالقوة حتى في عيادتك ويفرضونها في كل مجمع وبقالة ومكان تصله أقدام الناس، بعد أن دبغوها بدمغة “الصناديق الخيرية” وصيغ ملتوية كثيرة. هذا الخط التنازلي المستمر لسطوة التزمت تفسد عليهم اللعبة مثلما هم افسدوا على الناس دائما تحررهم الاجتماعي من قيودهم حتى في حق الاستماع للموسيقى واحتساء قهوة في مجمع تجاري في المناطق السكنية. فهل لمثل هؤلاء الناس فعلا رؤية واضحة للرؤية؟! اعتقد أنهم يحتاجون لرؤية جديدة للواقع تختلف عن رؤية هلال رمضان المختلفين حولها دائما فما بالكم الاختلاف على المنتزهات والمجمعات التجارية؟!
صحيفة الايام
7 فبراير 2010