عبثا نحاول جاهدين أن نفهم مغزى ذلك الاندفاع المحموم وغير المبرر نحو تخصيص قطاعاتنا الاقتصادية والصناعية المنتجة واحدا تلو الآخر من دون أن نعطي لأنفسنا ولو فرصة لمجرد التقاط الأنفاس، ومن دون أن نظهر أي نوع من المراجعة أو حتى التقييم لما تم من برامج تخصيص حتى الآن، لتصبح دعوات التخصيص نهجا وأسلوب حياة لا رجعة عنه، ودون أي مسوغ موضوعي أحيانا كثيرة، بل أن السمة الرئيسة لتوجهات الخصخصة لدينا، تكاد تخبرنا أن كل ما يمكن أن تقترحه الشركات الاستشارية الأجنبية في هذا السياق من مقترحات أصبح محل ترحيب دون أدنى مراجعات مطلوبة، خاصة إذا علمنا أن هناك مشاريع ظلت على الدوام ناجحة الأهداف والموارد، لكنها ربما تحتاج مع مرور الزمن إلى إعادة هيكلة أو حتى تخصيص إداراتها وليس أصولها بالضرورة.
من باب المسئولية الوطنية يجب أن توضع كافة الطاقات والإمكانات والخبرات الوطنية تحت تصرف مشاريع الإصلاح الاقتصادي، كإصلاح قطاع التعليم وقطاعات الصحة والاتصالات والموانئ وغيرها، فهي في المحصلة محفزات لابد منها لتنويع مواردنا الوطنية وعدم الاعتماد على النفط إلى ما لا نهاية، فذلك خيارنا نحو المستقبل، ولكن لنتفق قبل ذلك كله، حول ضرورة أن يكون ذلك على قاعدة برنامج إصلاح اقتصادي وطني مدروس بعناية، وبما ينسجم مع أسس وأهداف رؤيتنا الاقتصادية الوطنية 2030 من حيث العدالة والتنافسية والاستدامة، حتى لا نقع في المحظور حيث لا ينفع الندم حينها.
ويكفينا القول أن التوجهات العالمية لمشاريع الخصخصة كانت قد ابتدعتها حكومة رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارجريت تاتشر وتبعها لاحقا الرئيس الأميركي السابق رونالد ريغان مستفيدين مما وفرته أجواء انتهاء الحرب الباردة بعد السقوط المدوي للاتحاد السوفيتي السابق، وتلاشي الثنائية القطبية لمصلحة نظام القطب الواحد، تلك السياسات وما خلفته وراءها من خراب اقتصادي واجتماعي هي الآن قيد النقد والمراجعة في كامل أنحاء المعمورة ولدى اقتصاديات قوية ومزدهرة أيضا، فلماذا تُدفع اقتصادياتنا الوطنية إذا للدخول متأخرة إليها دون أدنى مراجعة أو تريث، ودون أن نحدد ماذا تريد دولنا بالضبط من الأخذ بهذا النهج، وهل يكفي الاستناد إلى مبررات من قبيل تقليص تدخل الدولة في النشاط الإقتصادي وإعطاء الدور للقطاع الخاص، والاكتفاء بجعل الدولة منظما، وللعلم فان وجوه الخصخصة لا تقتصر فقط على نقل ملكية وإدارة مؤسسات الدولة وأصولها للقطاع الخاص، أو حتى بيعها أو تأجيرها أو مبادلتها بمديونيات عامة تثقل من كاهل هذه الدولة أو تلك، بل أن هناك أكثر من صيغة وأسلوب، ربما بشيء من المراجعة نستطيع أن نلجأ إليه مستندين إلى تجارب من سبقونا دون استنساخ لتجارب قد يكون بعضها ناجحا في دول بعينها، لكنها ليست بالضرورة نافعة لاقتصادنا بما يمتلك من مقومات وإمكانات هي في الحكم العام مختلفة في مقاييسها مقارنة عما لدى الآخرين من بدائل وقدرات! كذلك الحال مع القضاء على الاحتكار، وهو احد الأهداف المنشودة للخصخصة وهو مطلب اقتصادي رسمي وشعبي لا غبار عليه، شأنه شأن زيادة معدلات النمو وتحقيق الاستقرار الاقتصادي والقضاء على البيروقراطية الحكومية، والتخفيف من أعباء الدولة، وتحقيق كفاءة في الأداء العام لمؤسسات نعلم جيدا أنها لن تكون ملكا لنا بعد أن نستكمل بيعها لمن يستطيع أن يدفع، وهنا لا نريد التقليل من قدرة قطاعنا الخاص الذي هو بالفعل غير مهيأ بعد للقيام بمهمة إدارة تلك المشاريع الضخمة المعلن وغير المعلن عن تخصيصها ومن بينها على سبيل المثال لا الحصر قطاعي الاولومنيوم والغاز والنفط وهذا الأخير يشكل ما يزيد على 85% من دخلنا الوطني! مما يعني تقديم أصولنا ومواردنا لتلك الشركات العابرة للقارات للهيمنة على اقتصادنا، مستفيدة مما توافر من فراغ في التشريعات، ونعني به تحديدا قانون التخصيص الذي بات يحتاج إلى إعادة نظر سريعة قبل فوات الأوان، ومن ضغوطات دولية اقتصادية ومالية على دولنا النامية، وذلك في مجمله يمكن مقارنته بحجم الفقد المتوقع في الأصول العامة وزيادة حجم البطالة ومؤشرات الفقر المتوقعة وتراجع الطبقة لوسطى، والإضرار بشبكة الأمان الاجتماعي، وضرب لنظام التقاعد والتأمينات، حيث قطعت الدولة أشواطا محمودة في ذلك، وحتى لا نكتشف متأخرين حجم التعارض بين كل ذلك وما تطرحه رؤيتنا الاقتصادية الوطنية.
نقول ذلك ونحن نرقب بخوف ما يجري الحديث عنه من مشاريع لتخصيص موارد أساسية في بنية اقتصادنا الوطني هي النفط والغاز والالومنيوم ومستقبلا التعليم والصحة وربما حتى ما تبقى من الثروة البحرية! ومصدر خوفنا يكمن في ما يستوجبه ذلك التوجه من تداعيات اقتصادية واجتماعية وأمنية وسياسية محتملة.