“مجتمع حداثي” هذا هو الانطباع الأول الذي من الممكن ان يخرج به من يزور البحرين للمرة الأولى، فمطاعم الوجبات السريعة، والنوادي الليلية، والمجمعات التجارية، والأبراج الاستثمارية تملأ البحرين أينما حللت.
لكن نظرة أكثر تعمقاً تكشف أن هذه الجزيرة الجميلة لا تطل في واقع الأمر على البحر في كل الاتجاهات الجغرافية التي تعلمناها في المدرسة، وفي الواقع إن ما يطل على البحر هي مجموعة من الحوائط الإسمنتية التي شيدت لمشاريع تمتاز بالبذخ والرفاه.
لذا فأن طموح أي بحريني أو مقيم أو زائر يتلخص في تحقيق الوسائل المادية والسلطوية التي تمكنه من اختراق تلك الحواجز للوصول إلى مشهد يضمن له أن يستغرق بنظره في عمق مشهد البحر الممتد الذي قرأنا عنه في السير القديمة والروايات الرومانسية.
من هنا قد نتستنتج إشكالية التفكك الاجتماعي الذي يتعرض له المجتمع البحريني، فهذه الجزيرة الصغيرة الدافئة التي تتوسط الخليج والتي عرف عن أهلها انفتاحهم وحميمية علاقاتهم، فقدت أهم ما تمتاز به، فلم يعد هنالك بحرٌ أو حميمية.
إنما هلت بزخم مشاريع التطور العمراني والإستقطاب السياحي، ومشاريع إجترار ما في الجيب لصالح كل ما هو ثانوي ومؤقت واستهلاكي .
كل تلك العوامل تبدو ظاهرة على طوابع أبناء الجزيرة الدافئة، فالحرمان من مشهد البحر يدفعنا لأن نتوق إليه ليصبح تدريجياً من الموروثات المتحسر عليها، ومن ثم ينشأ جيل جديد وفق ثقافة جديدة تبنى على مقتضيات “الحداثة” وهي لكي تبدو الصورة واضحة، النادي الليلي، المنتجع السياحي، مطاعم الوجبات السريعة، والمكاتب العلوية في أبراج الاستثمار المطلة على البحر.
وتكون محصلة كل ذلك شعب مفكك لا تربطه قيم إجتماعية، ولا موروثات حضارية، يعيش في قوالب إسمنتية، عاجز عن التواصل الإنساني ويستعيض بالمجتمع الإفتراضي عبر وسائل التكنولوجيا الحديثة لخلق علاقاته الاجتماعية.
شعب شرس يتصارع على المادة والنفوذ مع كل ممن حوله في جزيرة صغيرة ارتفع وطيس دفئها على نار حامية ينصهر كل من لا يساير شلال تطورها البركاني “المنفتح، الحر، العادل، والتنافسي”.
” كل ما أعترض ناظري سور أسمنتي إستعدت الذكريات يوم كنا نجتمع ونوقد النار ونتبادل الأحاديث الإجتماعية والسياسية بعفوية وبتجرد عن أي ضغائن أو مصالح شخصية، كنا قريبين من بعضنا، أمر اليوم على تلك الأمكنة وأتذكر، أتذكركم وأقول كنا هنا، هنا كان البحر!، بينما تبدو الصورة اليوم مختلفة، حيث حلت محلها غابة أسمنتية، فارضة شروطها وبيئتها وثقافتها”.