وصفها الرئيس باراك أوباما بأنها أكبر عملية إغاثة إنسانية في تاريخ الولايات الأمريكية وربما تكون بالفعل كذلك. فلقد هبت الحكومة الأمريكية على نحو سريع لنجدة هاييتي التي ضربها زلزال مدمر بقوة 3,7 درجات على مقياس ريختر في يوم الثاني عشر من يناير 2010 وأدى إلى تدمير حوالي ثلث العاصمة ‘بورت أوبرنس’ وإزهاق أرواح حوالي مائتي ألف من السكان وعدد مماثل من المفقودين وتشريد حوالي مليون ونصف المليون من سكان البلاد البالغ عددهم عشرة ملايين نسمة.
ولا يجافي الرئيس أوباما الحقيقة حين يقول إنها أكبر عملية إغاثة إنسانية في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية. فما فعلته حكومته من تعبئة وحشد لإمكانياتها المادية والبشرية والعسكرية والسرعة الفائقة التي تمت بها عملية نقل كل هذه الإمكانات والتجهيزات لهاييتي المنكوبة، قد فاقت في حقيقة الأمر العمل التعبوي الإغاثي الذي قامت به إدارة الرئيس جورج بوش الابن في ولاية نيو أورليانز نهاية أغسطس ومطلع شهر سبتمبر من عام 2005 على إثر إعصار كاترينا المدمر الذي ضرب أولاً ولاية فلوريدا قبل أن يعبر الولاية ويزداد شراسة ويضرب ولايتي لويزيانا ومسيسيبي ويقتل ويشرد الآلاف ثم تضرب رياحه العاتية بسرعة 225 كيلومتراً في الساعة ولاية نيو أورليانز وتدمر عشرات آلات المنازل والمباني وتقتل وتشرد عشرات الآلاف، حيث تم نقل 78 ألفاً إلى ملاذات للطوارئ وإجلاء آلاف الأشخاص إلى خارج الولاية. حيث اعتُبر هذا الإعصار أسوأ كارثة طبيعية في تاريخ الولايات المتحدة بخسائر قدرتها شركات التأمين بحوالي 26 مليار دولار، ما جعله أكثر الأعاصير تكلفة في تاريخ البلاد.
ومع ذلك فلقد تعرض الرئيس بوش وأركان إدارته حينها إلى انتقادات شديدة ولاذعة بسبب ما اعتبرته بعض الأوساط السياسية والإعلامية تقصيراً فاضحاً وتباطؤاً غير مفهوم في مد يد العون والمساعدة لولاية نيو أورليانز المنكوبة. حيث كتبت نيويورك تايمز حينها: ‘كالمعتاد من هذه الإدارة فقد ظهر الرئيس متأخراً عن الوقت الذي نحتاجه فيه’.
بينما لوحظ في زلزال هاييتي التحرك السريع للرئيس أوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون الذي أسفر عن حملة حكومية أمريكية فاعلة للتوجه والحضور العاجل والسريع في مسرح المناطق المنكوبة والقيام بتنسيق عمليات الإنقاذ والإغاثة لمئات آلاف القتلى والجرحى والمنكوبين والمشردين في العاصمة بورت أوبرنس وما جاورها، حيث قامت طلائع القوات الأمريكية التي وصلت سريعاً إلى هاييتي بتسلم مطار العاصمة وإصلاح مدرج هبوط الطائرات والأعطاب التي لحقت بمبنى المطار قبل إعادة فتحه بسرعة فائقة أمام الطائرات التي بدأت تصل من جميع أنحاء العالم محملة بكافة أنواع المؤن والمساعدات الإنسانية.
كما نجحت القيادة الأمريكية المسئولة عن تنسيق وإدارة عمليات الإغاثة في إعادة فتح الميناء لاستقبال السفن التي كانت تنقل المساعدات لشعب هاييتي المنكوب.
وبمواكبة ذلك كلف الرئيس أوباما الرئيس الأسبق بيل كلينتون للإشراف على أعمال الإغاثة وإصلاح الأعطاب والأعطال التي خلفها الزلزال. كما تمت الاستعانة في هذا الصدد بالرئيس السابق جورج بوش، حيث أفردت الميديا الأمريكية التي تم استنفارها والزج بها في الحملة، لقاءات مطولة مع الرئيسين السابقين بيل كلينتون وجورج بوش الابن بهدف استقطاب اهتمام الرأي العام الأمريكي والمنظمات المدنية والكنائس والمؤسسات الخيرية للمساهمة في هذه الحملة الوطنية الضخمة. علماً بأن الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن قد عهد إلى والده الرئيس الأسبق جورج بوش والرئيس الأسبق بيل كلينتون مهمة تنسيق أعمال الإغاثة لمنكوبي إعصار كاترينا في ولاية نيو أورليانز.
فما هو تفسير هذه الفزعة وهذه الحمية التي نزلت فجأة على ساسة الولايات المتحدة لنجدة هاييتي على هذا النحو اللافت والمثير؟
بعض الأصوات في فرنسا وفي أمريكا اللاتينية ارتفعت منددة بما اعتبرته استغلالاً أمريكياً لمأساة هاييتي ذريعة لإرسال قوات عسكرية إلى جانب المساعدات الإنسانية في محاولة لاحتلال هاييتي.
هلا هذا معقول؟
لا يبدو الأمر كذلك وفقاً لظاهر المعطيات المتوفرة على الأقل، وإن كانت الاتجاهات التوسعية ونزعة الهيمنة العالمية لازالت موجودة وحاضرة بقوة في بعض مؤسسات النظام الأمريكي لاسيما مؤسساته الأمنية ذات النفوذ الطاغي في الحياة السياسية الأمريكية.
إنما نحن أمْيَل إلى ترجيح فرضيات أخرى لا تبتعد كثيراً في واقع الحال عن الهواجس التي أبداها بعض الدول اللاتينية والدولة الفرنسية، وهي -من وجهة نظرنا- كما يلي:
(1) إظهار الجانب الإنساني والأخلاقي للنظام الأمريكي اللذين سقطا سقوطاً مدوياً في أعين الرأي العام العالمي إثر الفضائح المدوية التي كشف عنها النقاب والمتمثلة في تورط أجهزة الدولة الأمريكية ومؤسساتها الحاكمة، وعلى أعلى المستويات، في أعمال تعذيب وانتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان سواء فيما يتصل بمعتقلي سجن جوانتنامو أو فضيحة سجن أبوغريب أو السجون السرية التي أقامتها السي.آي.أيه. في عدد من البلدان الأوروبية والشرق أوسطية. وقد جاء زلزال هاييتي المدمر ليشكل فرصة سانحة للنظام الأمريكي الحاكم لكي يقدم نفسه من جديد للرأي العام العالمي في حلة جديدة ‘قشيبة’ مفعمة بالإنسانية والقيم الأخلاقية تمحي الصورة السيئة التي لطختها بممارساتها المشينة إدارة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش.
(2) إظهار وإعادة تأكيد فرادة الزعامة الكونية الأمريكية بعد أن كثر الطامعون في هذه الزعامة وبرز منافسون حقيقيون على المسرح الدولي يمتلكون كل مقومات الزعامة العالمية، وذلك من خلال استعراض ‘كمال أجسامي’ لعناصر القوة الأمريكية السياسية والعسكرية والاقتصادية واللوجستية ليس بوسع أية دولة منافسة توفيرها في اللحظات التاريخية الحاسمة للأزمات الكبرى ذات الطابع الكوني. (3) القرب الجغرافي لهاييتي من السواحل الجنوبية الأمريكية وتحديداً ميدنة ميامي عاصمة ولاية فلوريدا، ومع الأخذ هنا بعين الاعتبار مجاورة هاييتي لكوبا، فإن الخشية الأمريكية من حدوث موجة نزوح سكاني من هاييتي المنكوبة بالزلزال نحو مناطق الساحل الجنوبي الأمريكية، ولتحاشي مفاجآت جيوبوليتيكية، قد دفعت أجهزة الأمن والطوارئ الأمريكية لاتخاذ إجراءات وقائية، بموافقة ومصادقة ومشاركة المستوى السياسي الأعلى، للحيلولة دون حدوث حالات النزوح الجماعي تلك باتجاه الشواطئ الأمريكية، أو حدوث فراغ في السلطة في البلد المنكوب يمكن أن ينتج حالة من عدم الاستقرار فيه مؤذية ومضرة للوضع الجيوبوليتيكي الأمريكي في القارة اللاتينية.
ومع أن العمليات برمتها تعتبر مكلفة للولايات المتحدة، اعتباراً بحجم المؤن والمساعدات التي نقلتها إلى هاييتي وحجم القوات التي نشرتها وأعمال الإنشاء وإعادة الإعمار، خصوصاً في ظل وصول مستوى المديونية الأمريكية إلى 12 تريليون دولار أي تقريباً نفس حجم الناتج المحلي الأمريكي، إلا أن عدم القيام بها لابد أن يكون أكثر كلفة وإلا لما تحرك الأمريكيون بهذه السرعة وبهذا ‘السخاء الحاتمي’ الذي من المؤكد أنه عقد الدهشة على وجوه الكثيرين في هذا العالم الغريب العجيب!
صحيفة الوطن
6 فبراير 2010