مرة سمعت الأستاذ منح الصلح يحاضر عن المدن الساحلية. كان ذلك عبر ورقة قدمها في ندوة عن الثقافة، ولعل سائل يسأل: ما علاقة المدن الساحلية بالثقافة؟ ذلكم هو السؤال الذي أراد مُنح الصلح الإجابة عليه، ولم تكن مصادفة أن المحاضر اختار بيروت نموذجاً ليحكي عبره كيف تؤثر كيف تؤثر المدينة الساحلية في صنع الثقافة، لأن بيروت تصحُ مثالاً من خلاله يمكن أن نتقصى كيف مكنت إطلالتها على البحر من أن تجعل منها ميناء مفتوحاً على ثقافات أخرى ومؤثرات حضارية وروحية متعددة، لأن الميناء نافذة على العالم من خلاله يأتي البحارة ويغادرون، وإذ يأتون فإنهم يحملون معهم أشياء من أوطانهم، أشياء تخص الروح، من موسيقى وإيقاعات وأفكار وعادات.
ومع الوقت يتشكل لدى أهل المدن الساحلية مناخ منفتح على الآخر، متسامح تجاهه، ثم تنشأ بيئة ثقافية وحضارية قابلة لأن تأخذ من هذا الآخر ما تراه مخصباً لثقافتها وعاداتها، وتندغم عناصر هذا التأثر في النسيج الحي للثقافة والحياة، فتغدو جزءاًً مكوناً منه من الصعب رده حرفياً إلى منابعه الأولى، لأنها تكتسب من البيئة المحلية التي اندمجت فيها ظلالاً ليست موجودة فيها، ونحصل بالنتيجة على مُركب جديد، هو نتاج تفاعل احتاج زمناً طويلاً حتى بات ما هو عليه.
ومع أن وطننا البحرين جزيرة فإن عشوائية التوسع العمراني الجارية أدت إلى ردم مساحات واسعة من البحر نجم عنها مع الوقت أن اختفى ساحله أو أوشك. كان الجسر بين المنامة والمحرق طويلاً، وحين كنا نقطعه صغاراً كنا نشعر برهبة من يقطع طريقاً يربط بين جزيرتين أدى ردم البحر إلى تقارب المسافة بين المحرق والمنامة، وباتت مساحة ماء البحر الفاصلة بينهما محدودة.
ولم يعد الجسر نفسه، الذي ليس وحيداً كما كان، طويلاً، حتى لكأنك لا تشعر أنه يوصل بين جزيرتين. وأذكر كيف عبر أمين الريحاني عن دهشته من البحر يحيط بجزائر البحرين حين زارها في العشرينات من القرن العشرين، على النحو الذي شرحه بتفصيل عذب في كتابه: “ملوك العرب” عن رحلته في الجزيرة العربية وما حولها، بل بوسعنا أن نعود إلى الوصف العذب الذي قدمه، عن الجسر، شاعرنا قاسم حداد في كتابه عن المحرق:”ورشة الأمل”.
نبحث عن تلك الصورة فلا نجدها اليوم، فاليابسة باتت تزحف على البحر، وأرخبيل الجزر المتناثرة غاب أو كاد، فاتحدت الجزر في يابسة واحدة واندمجت، ومنظر البحر الذي كنا نروي به عيوننا صغاراً وهو يطرب آذاننا بأمواجه التي تكاد تدخل فناء البيوت لتسامرنا حتى الصباح بات بعيداً، وبالكاد أيضاً صرنا نعثر على بقايا كورنيش نضع فوقه أقدامنا لنمشي خطوات في سويعات الأصيل أو ما دونها، وأمامنا ووراءنا وعلى الميمنة والميسرة تهدر الجرافات وهي تجرف الرمل نحو البحر، لتردمه وتطمره، مدمرة البيئة البحرية ومزارع تكاثر الأسماك دون رحمة وشفقة.
الرمل الذي يدفن به البحر بات ذهباً أعمى الأعين، فلم يعد الدافنون يأبهون بالخراب الناجم عما تقترفه أياديهم، فبتنا مطالبين بصحوة مجتمعية واسعة تتضافر خلالها الجهود لوقف هذا العبث الذي يجري بحق بيئتنا التي تنتهك بشكل غير مسبوق ولا مثيل له في أي مكان لا في منطقتنا ولا في خارجها.