المنشور

تمهيد الثورة الخضراء الإيرانية ( 2 – 3)

قامت الثورة الدينية الإيرانية في السبعينيات على دعم (البازار) وهي فئة تجار السوق الذين شكلوا حلفاً اجتماعياً بعيد المدى عبر العقود وغائراً في جسم التجربة السياسية الدينية، ولم يكن بإمكان التجارة أن تشكل وعياً ديمقراطياً متكاملاً وجذرياً داخل المذاهب الإسلامية، فعاشت المذاهب الإسلامية على سلطة الأمراء والملوك يحددون لها السقف الاجتماعي الذي يجب ألا ترفع رؤوسها فوقه، ولم تستطع الومضة التحديثية للأفغاني ومحمد عبده أن تقوم بذلك التغيير، وما لبثت المذاهب أن استعيدت السيطرة عليها عبر صعود الدول المستعبدة أو المستقلة فيما بعد، وبهذا فإن التجار الإيرانيين أملوا خيراً في هذه الثورة الشعبية بأن تعزز الديمقراطية والرأسمالية، وبدا ذلك واضحاً في الكتل المدنية التي تحالفت مع السياسيين الدينيين شبه المجهولين وصعدتهم على مسرح الحكم.
كان هناك إيمان مشترك بالإرث الشيعي ونضالاته عبر التاريخ، وهو أمرٌ يتجلى في الممارسات العبادية التضحوية الحسينية خاصة، لكن لم يكن للبؤر البرجوازية النهضوية الإيرانية قراءات معمقة للإرث الإسلامي، وقد رأينا عبدالكريم سروش المفكر الذي نشأ في هذا المخاض وهو يتقلب في رؤاه الفكرية السياسية بين تأييد رجال الدين بحماس ثم الهجوم الكاسح عليهم، (راجع: دلالات أفكار عبدالكريم سروش للكاتب).
إذاً لقد استبشر التجار خيراً من توجهات الثورة، ولم يتعمقوا فهم الاتجاهين الداخليين فيها: اتجاه رقابة الدينيين على الحكم وعدم التدخل فيه، واتجاه التدخل الشامل والتحكم في الدولة. آية الله مطهري مؤسس الاتجاه الأول تم اغتياله بعد السنة الأولى من الثورة، ثم صعدَ الاتجاه التدخلي الشمولي وتحكم الدولة في المجتمع، مستفيداً من الغليان ضد سياسة الولايات المتحدة وحرب العراق وصعود المؤسسات العسكرية والأمنية والاقتصادية، وفرش سيطرته الواسعةَ على كل مناحي الحياة.
وبهذا رأينا أحلام التجار تتبخر، ورأينا تساقط الأزهار الذابلة للحداثة الديمقراطية المرجوة، وترنحت أحزاب القوى المدنية وهرب رئيس الجمهورية الأول وانتشرت المحافظة السياسية، وسادت في الحياة عمليات خنق الحريات، ولم يستطع أحدٌ التعبير إلا من خلال الشعارات الدينية السائدة التي تعكس سيطرة الحياة التقليدية على جماهير المسلمين.
وبهذا فإن عمليات الديمقراطية وإعادة النظر التحليلية العصرية داخل المذهب الشيعي في إيران سدت الأبواب عليها، ولهذا رأينا مير حسين موسوي يصير رجلاً تقنياً، خاليا من الأبعاد الديمقراطية التحليلية والاجتماعية، ويغدو مهندساً للقطاع العام، الجسد الاقتصادي للبيروقراطية الحكومية السياسية.
الشيخ رفسنجاني صار رئيساً للجمهورية فترة، وهو الليبرالي المقنع وسط هذه الشمولية السياسية الدينية الاقتصادية، فلم يستطع أن يشق اتجاهاً رأسمالياً ديمقراطياً واسعاً.
إن القطاع العام هو ضرورة كبرى للبلدان الفقيرة النامية، وهو الرافعة الضخمة لنقلها من التخلف للتقدم. يمكننا هنا رؤية بذرة (الاشتراكية) من حيث هي قوةٌ اقتصادية تخطيطية وتجميعية وتسريعية لقوى العمل الوطني المحشودة من قبل جهاز الدولة، ولكن هذه القوة توظف في خدمة الطبقة الحاكمة، وتتلبس هذه العملية في الشرق الدكتاتوري عبر أساليب إنتاج مختلفة، واتجاه هذه القوة عموماً في العالم الثالث الراهن هو تصعيد الرأسمالية لا الاشتراكية، ولا الإسلام ولا العدالة ولا الوطنية وبقية الكلمات العامة المجردة الضبابية. ولكن أي رأسمالية تنشأ من خلال هيمنة الجيش والمخابرات والبيروقراطية؟! إنها تخضع لمسارات النظام وللقوة السائدة فيه، وبما أن القوة التي قبضت على المداخيل هي القوى العسكرية الاستخباراتية فهي توجهها لنظام عسكري يعيش دائماً على المواجهات ليبرر وجوده.
ومن هنا فإن الفئات الوسطى الصغيرة التي صعدت هذا النظام نفسه، راحت تتساءل: ماذا فعلنا؟! إن المثقفين البرجوازيين الصغار وجدوا أنفسهم مخنوقين من قبل نفس النظام الذي شكلوه، مثلما تم قتل المفكر بوخارين على يد الجلاد ستالين في روسيا، وهكذا فإن آلة الدولة الرأسمالية الحكومية الشمولية تقوم بسحق القوى الثقافية والسياسية والإبداعية المتذبذبة التي بنت هياكل النظام، فتضيع الآفاق الرحبة لنظام مسالم وعصري!

صحيفة اخبار الخليج
2 فبراير 2010