في مذكراته كتب بابلو نيرودا عن كنز الكتب الذي راكمه طوال حياته. حين بلغ نيرودا الستين من عمره أدركه القلق على مصير هذا الكنز: ماذا سيحل به بعد أن يموت. واختار أن يفعل ما يفعله المبدعون الكبار عادة: فقرر إهداء كنز الكتب إلى المكتبة العامة في بلاده تشيلي. لكن المفاجأة كانت في الطريقة التي تعاطت بها السلطات مع خطوة الشاعر الكبير.
لقد روى هو بنفسه ذلك حين قال:
«استغرقت ثلاثين سنة وأنا أجمع كتباً كثيرة. كانت رفوفي تحوي كتباً طبعت منذ زمن بعيد ومجلدات كانت تهزني لعظمتها في طبعاتها الأصلية لـ «رامبو»، لـ «لوتريامون»، لـ «سرفانتس»، كأنما صفحاتها مازالت تحتفظ بلمس أولئك الشعراء العظام. لقد جبت العوالم كلها إلى درجة إن مكتبتي نمت بإفراط وجاوزت شروط المكتبة الخاصة. ذات يوم أهديت المجلدات التي بلغ عددها الخمسة آلاف، والتي اخترتها بحب وشغف من أنحاء العالم كله،إلى جامعة تشيلي، فاستقبل مدير الجامعة هذه الهبة بالجمل الطنانة والكلمات الجميلة.
أي إنسان ناضج وشفاف سيفكر في البهجة التي عمت تشيلي إثر هديتي هذه. لكن ثمة أناساً يسكنهم الكدر ويجافيهم الصفاء هاجوا وماجوا. كتب ناقد رسمي مقالات غاضبة، يحتج فيها بحدة على سلوكي. سيد آخر ألقى في البرلمان خطاباً ملتهباً ضد الجامعة لأنها قبلت هداياي، وهدد بقطع الإعانات التي تتلقاها الجامعة، فيما شن آخرون موجة من صقيع الشتائم، وكان مدير الجامعة يروح ويغدو عبر كواليس البرلمان شاحب الوجه مرتعداً، إلى أن فصل من عمله وعزل عن أي وظيفة».
لم تكن تشيلي هي التي تنكرت لمكتبة شاعرها الأهم، وشاعر الإنسانية كلها، الذين هاجوا وماجوا غضباً لأن تلك الكتب النيرة التي ساهمت في تكوين عقل ووجدان نيرودا هم أفراد تلك الحلقة الصغيرة المتنفذة التي تخشى الكتب، وتخشى ما فيها من أفكار.
وما فعلته هذه الحلقة الصغيرة يشبه في جوهره كل ذلك الحصار الذي فرض على الكتب وأصحابها عبر التاريخ، حين كانت هذه الكتب إما تؤخذ للمحارق على قارعة الطريق كما فعل غلاة القشتاليين وهم يقتحمون شوارع غرناطة ويمشطون بيوتها بيتاً بيتاً بحثاً عن الكتب، ثم يجمعونها في كومة كبرى وسط المدينة ويضرمون فيها النار حسب الوصف البليغ الذي قدمه الروائي الباكستاني طارق علي في روايته: «تحت ظلال الرمان».
أو إنها ترمي في الأنهر كما فعل جنود هولاكو بعد أن استباحوا بغداد ودنسوا مكتبتها، فأخذوا بكنوزها النفيسة نحو النهر، كأن الطغاة والمحتلين دوماً، ورجال السلطة الفاسدين يخشون الكلمة الحرة المدونة في كتاب، ويخشون المعرفة الإنسانية وقد تراكمت طبقة فوق طبقة محفوظة في الكتب التي وضعتها ألمع الأدمغة وأكثرها نوراً ونبوغاً.
لقد مات هولاكو وبعده بقرون انتحر هتلر الذي كانت عصاباته قد حرقت الكتب في شوارع برلين، وبقي الكتاب، وبقيت المعرفة. أما تشيلي فقد خرجت صفوفاُ متراصة تحيي ذكرى نيرودا في مئويته، فيما لم يعد أحد يسمع بأمر أولئك الذين احتجوا حين أهدى مكتبته للوطن.
صحيفة الايام
2 فبراير 2010