المنشور

ثلاثة بدائل عن رفع الأسعار

تلجأ اغلب الدول النامية حينما تمر بأزمات مالية او اقتصادية الى رفع أسعار بعض السلع الاساسية التي تحت سيطرتها انتاجيا او رفع دعمها عن السلع التي هي خارج سيطرتها، وتبدو وهي تلجأ الى هذا الخيار للتغلب على ازمتها المالية كأنها مضطرة إلى اتخاذه ولا بديل لها آخر سواه، لكنها وهي تقدم على ذلك لم تحسب مقدما ألف حساب للعواقب الخطرة المترتبة على هذا الاجراء فيما يتعلق باستقرار وأمن الجبهة الداخلية وزعزعة السلم الأهلي.
وفيما يتعلق بالمصاعب الراهنة التي تواجهها حكومتنا في الموازنة العامة او الدخل القومي بوجه عام ثمة ثلاثة خيارات بدائل على الاقل عن رفع اسعار السلع الاستراتيجية التي تحت سيطرتها كالبنزين وعن وقف الدعم لأسعار بعض السلع، الا ان الحكومة للأسف مازالت مستنكفة عن تجريبها جديا لأسباب غير مفهومة حتى الآن:
الخيار الأول: يتمثل في فرض الضرائب على ذوي الدخول والثروات المرتفعة وبخاصة في القطاع الخاص علما بأن هذا الخيار مجرب ومعمول به في غالبية الدول الرأسمالية ولاسيما الديمقراطية منها.. ولمح إليه سمو ولي العهد في حديثه الى “العربية”، وبالتالي فلماذا لا تباشر الدولة إطلاق اكبر ورشة حوار مجتمعي لتدارس هذا الحل الخيار بأسرع وقت ممكن اذا ما كانت حقا مازالت مترددة او متخوفة من الاقدام عليه بكل شجاعة؟
هنا يقتضي الأمر القول ليس سرا ان عددا من كبار رجال الأعمال وبعضهم ممن نشرت اسماؤهم في قوائم المليارديرية العرب هم الذين يستخدمون نفوذهم سواء من داخل جهاز الدولة او من خارجه لعرقلة اتخاذ هذا القرار بذرائع واهية مختلفة، ولا يسعني في هذا الشأن الا ان أشيد بالموقف الشجاع الذي سبق أن اتخذه رئيس الغرفة التجارية رجل الأعمال عصام فخرو بالدعوة إلى اتخاذ مثل هذا الموقف، علما بأنني هنأته شخصيا مؤخرا في لقاء عابر بهذا الموقف الجريء الذي كما علمت منه اثار “زعل” الكثيرين عليه.
البديل الثاني: يتمثل في ترشيد الانفاق المالي، فترشيد الانفاق الحكومي إجراء معروف وقديم تلجأ إليه كل دول العالم، الغنية منها والفقيرة، التي تمر بأزمات مالية، لكن قلما قامت به الدول النامية جديا على نحو فعال وبخاصة دولنا الخليجية المعروفة بتعودها المزمن الانفاق الحكومي الباذخ غير الرشيد منذ بدايات سني “الطفرة” في مطلع سبعينيات القرن الماضي، ودولتنا رغم انها اقل هذه الدول استفادة من الطفرة النفطية ليست استثناء من تلك العادة المقيتة، ومع ان الحكومة رفعت شعار ترشيد الانفاق، الا ان مظاهر الانفاق غير الرشيد وغير الضروري عديدة ويمكن ان يلمسها القاصي والداني ويمكن بكل بساطة معرفتها حتى من متابعة أخبار الوزارات العادية في الصحافة اليومية.
وبالتالي فإن الحزم في تفعيل آليات الضبط والرقابة لمنع الاهدار المالي في موازنة الدولة بات ضروريا على نحو ملح.
البديل الثالث: يتمثل في تفعيل آليات مكافحة الفساد، فمنذ انطلاقة المشروع الإصلاحي وهذه القضية اشبعت نقاشا وطرحا على صعيد الصحافة والرأي العام ومنتديات القوى السياسية ومؤسسات المجتمع، والحق فان القيادة وفي اكثر من تصريح اعلنت وقوفها ضد هذه الآفة التي تستنزف المال العام، وقد عني التقرير الاستراتيجي الاخير الصادر عن مركز البحرين للدراسات والبحوث، وهو مؤسسة رسمية شبه مستقلة، بهذه القضية، وأشار الى موافقة الحكومة على الانضمام إلى اتفاقية مكافحة الفساد الدولية التي تلزم الدولة بانشاء هيئة مستقلة لمنع الفساد، ورفع مجلس الوزراء مشروع قانون بهذا الصدد إلى السلطة التشريعية، كما استعرض التقرير الاستراتيجي عددا من قضايا الفساد الكبرى التي تناولتها الصحافة المحلية.
على ان الدولة لم تفعل حتى الآن آليات وسبل مكافحة الفساد على نحو ملموس، ومازالت اغلب القضايا التي تحال الى المحاكم هي من نوع القضايا الصغيرة التي يتورط فيها موظفون او مسؤولون صغار في حين يسود الاعتقاد والشبهات في اوساط الرأي العام بقوة بتورط مسؤولين ومتنفذين كبار في قضايا اكبر واخطر مما تتناولها الصحافة اليومية.
والغريب ان كل شقيقاتنا في دول مجلس التعاون، وبضمنها حتى الدول التي لا توجد فيها حياة برلمانية، احالت إلى القضاء عددا من قضايا الفساد الكبرى التي يتورط فيها ولو على الأقل وزراء ووكلاء او وكلاء مساعدون ومديرون ومسؤولون كبار آخرون، وهكذا فنحن نرسل رسالة للعالم مفادها أن كل قيادات جهازنا البيروقراطي بمختلف تراتبيته الهرمية في منأى عن هذه الآفة اللهم استثناءات نادرة ومحدودة جدا.
هل معنى ذلك انه بتلك البدائل فإن السلع ستبقى ثابتة على اسعارها ولن ترفع؟ كلا بالطبع لكن بكل تأكيد فإن موازنة الدولة ومخصصات دعم السلع الاساسية وامكانيات رفع الأجور في القطاع العام كلها ستكون في وضع افضل ولو نسبيا مما لو تركت الامور سائبة من دون اتخاذ الاجراءات الثلاثة لتستنزف بذلك مئات الملايين من الخزانة العامة.

صحيفة اخبار الخليج
26 يناير 2010