المنشور

نفاق الغرب في‮ ‬افتراق القول عن الفعل

قبل أيام أصدرت الأمم المتحدة تقريراً‮ ‬حول قطاع‮ ‬غزة لمناسبة مرور سنة على العدوان المجرم الذي‮ ‬شنته إسرائيل على القطاع،‮ ‬وقد حمَّلَ‮ ‬التقرير إسرائيل جزءاً‮ ‬من مسؤولية الكارثة التي‮ ‬حلت بسكان القطاع ومعاناتهم الإنسانية جراء ذلكم العدوان الهمجي‮ ‬الذي‮ ‬كبد القطاع خسائر تناهز أربعة مليارات دولار‮.‬
وكان الاتحاد الأوروبي‮ ‬قد أصدر أوائل شهر ديسمبر الماضي‮ ‬بياناً‮ ‬طالب فيه بجعل مدينة القدس عاصمة لإسرائيل وللدولة الفلسطينية وذلك من خلال آلية التفاوض بين الجانبين‮. ‬وكان المقترح الأصلي‮ ‬الذي‮ ‬تقدمت به الرئاسة السويدية‮ (‬الدورية‮) ‬للاتحاد الأوروبي،‮ ‬قد طالب باعتماد القدس الشرقية عاصمةً‮ ‬للدولة الفلسطينية قبل أن تلتف عليه فرنسا وألمانيا وتحبطانه من خلال إعادة صياغة مائعة ومُرْسَلة‮ (‬لا على التعيين‮) ‬أفرغت مقترح القرار الأصلي‮ ‬من محتواه‮.‬
فما الذي‮ ‬استفادته القضية الفلسطينية من هذه التقارير والبيانات والقرارات؟
بل ما الذي‮ ‬استفاده الشعب الفلسطيني‮ ‬من كل هذه‮ ‘‬المخطوطات‮’ ‬و‮’‬الإقرارات‮’ ‬الخطية‮ ‬‭-‬‮ ‬والشفهية أيضاً‮ ‬‭-‬‮ ‬سوى المزيد من الخذلان والمزيد من الشقاء والمعاناة‮.‬
يقول تقرير الأمم المتحدة الأخير بهذا الصدد إن إسرائيل تمنع دخول مواد البناء إلى القطاع اللازمة لإعادة بناء ما هدَّمته ودمرته آلة الحرب الصهيونية،‮ ‬ما أبقى آلاف العائلات الفلسطينية في‮ ‬حالة تشرد في‮ ‬العراء‮.‬
طبعاً‮ ‬المسكن هو أحد شروط الحياة الإنسانية الثلاثة التي‮ ‬أنشأت الحضارة الإنسانية وهي‮ ‬المسكن والمشرب والملبس‮. ‬وانطلاقاً‮ ‬من هذه الحقيقة التاريخية فقد اعتمدت إسرائيل منذ إنشائها‮ (‬وما قبل إنشائها أيضاً‮ ‬على‮ ‬يد العصابات الصهيونية الإرهابية مثل الهاجانا وشتيرن وغيرهما‮) ‬سياسة الأرض المحروقة ضد أبناء الشعب الفلسطيني‮ ‬لتشريدهم من ديارهم حتى‮ ‬غدت سياسة هدم المنازل الفلسطينية وطرد أهالي‮ ‬القدس الشرقية من منازلهم وتمكين عائلات‮ ‬يهودية من الاستيلاء عليها،‮ ‬أحد العناوين الرئيسية للعقيدة الصهيونية‮.‬
ولكن التشريد وحده لا‮ ‬يشفي‮ ‬غليل ساسة إسرائيل لكي‮ ‬يضمنوا تحويل حياة الفلسطينيين إلى جحيم لا‮ ‬يطاق‮. ‬فهم‮ ‬يمنعون مرضى السكري‮ ‬وأمراض العضال الأخرى من تلقي‮ ‬العلاج اللازم لمنع تدهور حالتهم الصحية،‮ ‬وهم‮ ‬يحرمون القطاع بأكمله من إمدادات الكهرباء على مدى ساعات طويلة،‮ ‬لاسيما ساعات الظهيرة في‮ ‬الصيف القائظ‮. ‬وهم‮ ‬يمنعون أنبوبات‮ (‬سلندرات‮) ‬غاز الطبخ فيضطر أهالي‮ ‬القطاع لتهريبها عبر الأنفاق من مصر‮. ‬وهم‮ ‬يمنعون الصيادين من الصيد في‮ ‬بحرهم،‮ ‬بحر‮ ‬غزة،‮ ‬بتحديدهم مسافة ستة أميال فقط للإبحار‮.‬
كل هذا وأكثر بات معروفاً‮ ‬للعالم أجمع،‮ ‬ومع ذلك فإنه لم‮ ‬يحرك ساكناً‮ ‬يضع به حداً‮ ‬لمسلسل الجرائم الإسرائيلية المستمر ضد أبناء الشعب الفلسطيني‮ ‬منذ ستة عقود،‮ ‬اللهم هذه‮ ‘‬التعويذات‮’ ‬التي‮ ‬يتمنى فيها‮ ‘‬مشعوذوها‮’ ‬أن‮ ‘‬ترأف إسرائيل بحال المساكين الفلسطينيين وأن تخفف حصارهم وتسهل تحركاتهم عبر طوق حواجزها المضروب عليهم بإحكام وأن تمكنهم من الحصول على الكهرباء والوقود لقضاء حاجاتهم المعيشية الأساسية‮’!‬
وهل التقرير الأممي‮ ‬الجديد سالف الذكر سوى‮ ‘‬تعويذة‮’ ‬جديدة تضاف إلى سابقاتها التي‮ ‬تزدحم بها أرفف مكاتب الجهات المصدرة لها؟
ما الذي‮ ‬استفدناه من حكم محكمة لاهاي‮ ‬القاضي‮ ‬بعدم شرعية الجدار العنصري‮ ‬الفاصل الذي‮ ‬أقامته إسرائيل في‮ ‬الضفة الغربية بدواعٍ‮ ‬أمنية أثبت حكم المحكمة بطلانها؟
وما الذي‮ ‬استفدناه أو سنستفيده من تقرير جولدستون الذي‮ ‬أكد أن إسرائيل ارتكبت جرائم حرب ضد الفلسطينيين خلال عدوانها على قطاع‮ ‬غزة قبل حوالي‮ ‬عام؟
إسرائيل لم توقع على اتفاقية إنشاء محكمة الجزاء الدولية وفلسطين ليست دولة عضو في‮ ‬المحكمة،‮ ‬وبالتالي‮ ‬فإن الأمر‮ ‬يتطلب تصويت مجلس الأمن على التقرير لإنفاذه‮. ‬وهذا من رابع المستحيلات،‮ ‬لأن الفيتو الأمريكي‮ ‬بانتظاره‮!‬
قبل ذلك والأهم منه،‮ ‬كانت هنالك قرارات دولية صادرة عن مجلس الأمن نفسه أبرزها قرار‮ ‬242‮ ‬الذي‮ ‬يطالب إسرائيل بالانسحاب من الأراضي‮ ‬الفلسطينية والعربية المحتلة في‮ ‬حرب حزيران‮/‬يونيه‮ ‬‭,‬1967‮ ‬وقرار‮ ‬338‮ ‬الصادر في‮ ‬أعقاب حرب‮ ‬1973‮ ‬بين العرب وإسرائيل والقرار‮ ‬194‮ ‬الذي‮ ‬يؤكد على حق العودة للاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم التي‮ ‬شُرِّدوا منها‮. ‬وهي‮ ‬قرارات ظلت حبراً‮ ‬على ورق إذ لم تُنفذ حتى اليوم،‮ ‬بسبب إرادة القوى الغربية التي‮ ‬تعتبر إسرائيل دولة فوق القانون الدولي‮.‬
وكي‮ ‬لا‮ ‬يبدو كلامنا هاهنا نوعاً‮ ‬من الندب واللطم والمناحة التي‮ ‬نتقن لغتها ونستعذبها من فرط تعلقنا بأهدابها،‮ ‬فإننا نقترح على أركان الدبلوماسية العربية أن لا‮ ‬ينخدعوا بمعسول لفظيات العلاقات العامة لنظرائهم أركان الدبلوماسية الأوروبية والأمريكية وأن لا‮ ‬يصدقوا كلمة واحدة‮ ‬يتلفظون بها أو‮ ‬يدبجوها تقاريرهم وبياناتهم بشأن القضية الفلسطينية،‮ ‬بأن‮ ‬يبادروا،‮ ‬حينها،‮ ‬إلى لفت انتباه نظرائهم الأوروبيين والأمريكيين بأن الكلام إذا لم‮ ‬يقترن بالفعل فهو هباء منثور،‮ ‬والفعل المطلوب هنا هو وجود خطط عمل تنفيذية‮ ‬‭(‬Action Plans‭)‬‮ ‬لتقاريرهم ومبادراتهم الزائفة،‮ ‬خطط تتضمن إجراءات عملية تجبر الصهاينة على التسليم بكامل حقوق الفلسطينيين والعرب التي‮ ‬نصت عليها قرارات مجلس الأمن آنفة الذكر‮. ‬وهنا حذار ثم حذارِ‮ ‬من تصديق الكذبة الجديدة التي‮ ‬يراد اليوم تسويقها وتمريرها تحت مسمى‮ ‘‬الضمانات الأمريكية‮’ ‬من أجل دفع الفلسطينيين صاغرين للتفاوض مع نتنياهو وعصابته‮.‬
طريق استعادة الحق معروف‮ ‬‭-‬‮ ‬وهو لا‮ ‬يتطلب سوى استخدام جزء صغير جداً‮ ‬من أوراق الضغط العربية المتاحة على نحو ما تفعل الدول المستقلة في‮ ‬دفاعها عن مصالحها‮.‬
 
صحيفة الوطن
23 يناير 2010