تتوجه رواية “عزازيل” لمؤلفها المصري يوسف زيدان لعرض الحقبة المسيحية المصرية التي جرى فيها الانتصار على الوثنية الرومانية والمناطقية عموماً.
إن المؤلفَ متبحرٌ في التاريخ تبحرا تقنيا، فلديه خريطة المدن المصرية والمدن المشرقية عموماً بأسمائها القديمة والحديثة، ويمتلك خرائط كبيرة عن الأشياء المادية والنباتية ومعارف العصر ومذاهبه الفكرية والدينية، بحيث إنه دخل هذا العصر بتعقيداتهِ التقنية والظاهرية.
استطاع أن يعرضَ الأديرة المسيحية وتشعباتها وتضاريسها المكانية وأجواءها الداخلية والحركات المذهبية التي عصفتْ بها، وغير هذا كثير مما يدلُ على موهبةٍ روائيةٍ وتبحر دراسي للفترة المروي عنها.
إن الإشكالية التي تعصفُ بهذه الرواية انه يعرضُ تاريخِ مواطنيه المصريين المسيحيين بشكلٍ قاسٍ غريب، وعبر رؤى مجردة رغم كل هذه العدة الكبيرة التي دخل بها ليرسم صورة روائية للعصر.
فهو يلغي تاريخَ اضطهاد المسيحيين من قبل الدولة الرومانية، وهو تاريخٌ طويلٌ ومرير، واستمر قروناً، ويفصلهُ عن جذورِ شخصياتهِ وأحداثه، فندخلُ زمنَ الانتصار المسيحي المصري المجرد، ولكن لنرى اضطهاد المسيحيين للوثنيين، بطرائقٍ وحشية.
هذا الاضطهادُ غيرُ المبررِ هو الجسمُ التاريخي للرواية، وهو اضطهادٌ يظلُ محدوداً في لقطاتهِ، فهو يتمظهرُ في ثلاثِ لقطاتٍ متعددة الأحجام، متقطعة في الزمان والمكان.
ولأن هذه اللقطات الكبيرة هي جسمُ الرواية الحقيقي، وهي الفكرة الفنية الروائية التي استولتْ على وعي المؤلف، فقام بعرضِها بوسيلةِ الراوي الساردِ الحاضر من خلالِ هذه اللقطات رغم تباعد الأمكنة والأزمنة، وصعوبة جمعها عبر هذا التباعد الزمني الذي يستمر عشرين سنة، وتنأى فيه الأمكنة بلا مبرر حقيقي.
يلخصُ الراوي الساردُ هذه اللقطات الكبيرة في حواره الداخلي وهو في خشيةٍ من أن يعودَ لبلده مصر بعد أن اقترح عليه الأسقف نسطور الذهاب للإسكندرية والحوار مع أسقفها الخطر المسيطر”العدواني” كما يصفه، يقول:
“لو نجوتُ منه فهل سأنجو من العوام، ومن جماعة محبي الآلام، وهم يعلمون أنني جئتُ ممثلاً لنسطور الذي يرونه مهرطقاً؟ أهلُ الإسكندرية لا يرحمون، ولا يخشون عقاباً على أفعالهم. قتلوا هيباتيا على مرأى من سكان المدينة، ولم يُعاقبوا وقتلوا قبلها أسقف مدينتهم جورج الكبادوكي، ومزقوه في الشارع الكبير”، ص 253، دار الشروق.
هذه السطور تعطينا ملخصاً لـ “المجازر” التي قام بها المسيحيون، وقد عُرضت قبلاً في الرواية على نحو واسع.
أما حواشي الرواية، أي ما هو خارج البؤرة الروائية، فهو يحكي عن جولات الراوي السارد “هيبتا” هذا، وأعماله الدينية العامة، وتصرفاته الشخصية التي يدور كثيرٌ منها خارج تلك البؤرة المركزية.
ما هو خارج البؤرة الروائية، يملأ أغلبها فهناك تلك الأوصاف المطولة للأمكنة: المدن، والأديرة، والأسواق، والصحارى، والحيوانات، والأدوية الخ. وهناك اللحظات الحميمية كقصص الرهبان وحياتهم الخاصة وطبائعهم، وعلاقات الراوي الخاصة كعلاقته بـ “أوكتافِيا” وهي قصة حبٍ تنعطفُ بحياةِ الراهب نحو جوانب أخرى. وتأخذ الأديرة وما يجري فيها وتواريخها السابقة وعلاقاتها بالحيوانات والطيور حيزاً آخر.
إن بؤرة المشكلة تكمنُ في شخصية الراوي السارد، فهو راهبٌ متنقل، تدفعهُ الحبكةُ في الواقع للمرور حول المشهديات الصراعية المسيحية، وهو راوٍ عليمٍ متبحر، لكنه راو يظل هو بؤرة السرد، فعدستهُ هي الوحيدةُ التي ترى وتصور، وهذا الشكلُ من الراوي، يعودُ لأزمنةٍ روائية عربية سابقة، كراوي جورجي زيدان، الحاضر في أمكنةِ الحروب والصراعات، لا يحيدُ عنها قيد أنملة، وينشئ إضافة لقصص الحروب والصراعات السياسية، قصة حب تكون مبررةً لوجوده. لكن راوي يوسف زيدان أكثر تطوراً بكثير بسبب الثقافة التي تغلغلت في المرئيات التاريخية والجغرافية والتي امتلكها المؤلف، وهو يؤلف قصتي حب خلال عشرين سنة، وكلتاهما من الحواشي.
وبؤرة المشكلة تكمنُ في كونهِ فتىً تعرض أبوه لحادث مأساوي مرير من قبل الثيمة (الشيطانية) نفسها وهي ثيمة المسيحيين العوام المفترسين، الذين قتلوا أباه، فكيف يمكن بعد هذا الحدث الدامي الجلل أن يكون مسيحيا بل راهبا متبحرا في المسيحية؟
إن كونه راويا مُخصصا من قبل المؤلف لعرض المشهديات التاريخية الكبيرة الدموية أكبر من إنسانيته، أي من كونه نموذجا فنيا متماسكا.
فهو من أجل أن يستخدمه لتلك العروض مضطر إلى أن يجعله مسيحيا وراهبا كذلك، وهو ليس راهبا ولا مسيحيا، لأن تلك المشهديات الكبيرة المطلوب عرضها، تقعُ في الأوساط المسيحية بل في عمقها كما سنرى بعد هذا.
إن دورَهُ التصويري أكبر من صدقه الداخلي، وبطبيعة الحال لابد للمؤلف من عرض بعض السببيات الصغيرة لكي يعقلن مثل هذه الحالة المستعصية على التصور، ككون أبيه القتيل كان المحبوب لديه، وأمه لم تكن محبة حقيقية له، وأن هذه الذكريات تنبثُ في وعيه بشكل ومضات قليلة عبر تلك السنوات الطويلة تؤكد حضورها وعدم اختفائها، وتجعله في حيرة وقابلاً لمواقف متعددة غامضة، لكن كانت تلك الومضات صغيرة جدا لا تدعوه لكي يترك تاريخ هذا الدين “الدامي”. ورغم ان عدوه يبقى مجسداً في هؤلاء المسيحيين العوام فهو يمضي لهم بشكل مستمر طلباً في الواقع لتصوير الأحداث التاريخية الصراعية الدامية التي ظهرت بينهم.
صحيفة اخبار الخليج
23 يناير 2010