هناك حدثان تاريخيان جديدان وكبيران شهدتهما الساحة الوطنية – السياسية في مملكة البحرين في الآونة الأخيرة، الأول منهما هو قيام المنبر الديمقراطي التقدمي بالاحتفال بـ “أيـام أحمد الشملان”، وأحمد الشملان هو المناضل الوطني التقدمي والرئيس الفخري للمنبر، الذي يعيش بيننـا، أطال الله في عمره مع دوام صحته وعافيته. وهذه المبادرة التاريخية محسوبة للمنبر الديمقراطي التقدمي باعتباره الامتداد التاريخي العلني والمنطقي لجبهة التحرير الوطني البحرانية (جتوب)، أما الحدث الثاني فهو قيام الأستاذة فوزية مطر، شريكة حياة رفيق دربنا أحمد الشملان، بكتابة سيرة حياته ونشرها في كتابها الموسوعي الكبير “أحمد الشملان: سيرة مناضل وتاريخ وطن”. وهذان الحدثان الأسبقيان – بمعنى أن الأسبقية صارت لهما تاريخياً بالمقارنة مع أي حدث مثيل قد يظهر مستقبلاً – لابُد أنهما أصبحا فخراً واعتزازاً لجميع الأفراد الوطنيين والقوى الوطنية المناضلة لأجل دعم وتوطيد الديمقراطية والحريات العامة التي شهدتها البحرين في السنوات الأخيرة.
وقد كتب – وربما سيكتب – العديدون من الكُتـاب والصحفيين وغيرهم عن هذين الحدثين التاريخيين الجديدين، وخاصةً ما يتعلق برفيق دربنا المناضل أحمد الشملان، باعتباره إنسانا وطنيا ومناضلا متمرسا التزم بمبادئ وقيم حزبنا “جتوب” منذ انضمامه إليه حتى اللحظة التي داهمه المرض فيها وأعاق نشاطه السياسي والاجتماعي، هذا الحزب الذي عرف عنه تبنيه الفكر العلمي الماركسي الجدلي والتاريخي بعيداً عن الاصطفاف المذهبي أو الطائفي أو القبلي بالرغم من الكثير من الانعطافات والانتكاسات التي شهدها هذا الفكر، وخاصةً بعد الانهيار المدوي للأنظمة التي كانت تتبنى هذا الفكر، وعلى رأسها الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية، ذلك الفكر الذي ساد في ثلاثة أرباع الكـُرة الأرضية وزهاء ثلاثة أرباع القرن العشرين المنصرم.
ماذا نقصد بسرد ما جاء في الفقرة الآنفة؟ إننـا نقصد أن رفيقنا أحمد الشملان كان مخلصاً لمبادئ الحزب الذي ينتمي إليه، و”رابطاً رقبته بوتد” هذا الحزب “لا يتبدل عنه” فعلاً. (1) فالقول إنه “ما كان أبداً حزبيا” قول غير صحيح إطلاقاً.(2).
وقد تجلّـى إخلاص أحمد لمبادئ حزبه “جتوب” والتزامه بقراراته التزاماً في الكثير من الحالات والأحداث، نذكر منها، على سبيل المثال، واحدةً منها لأهميتها، وهي التزامه بالشعار الذي رفعته “جتوب” للطلبة الدارسين في الجامعات والمعاهد في الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية وغيرها، وهو “الانتهاء من التحصيل العلمي والعودة إلى الوطن”، وذلك في الثمانينيات من القرن المنصرم. فقرّر، هو وكاتب هذه الأسطر، وبلا تردّد، الرجوع إلى أرض الوطن – البحرين – بعد التخرّج في عام 1981م، وهما يدركان جيداً أن مصيرهما كان هو السجن.
وقد حدث ذلك بالفعل، حيث تم نقل كل منهما مباشرة من مطار البحرين الدولي، إلى سجن القلعة بالمنامة وتم معهما التحقيق والاستجواب، وقد استشهد العديد من خيرة أبناء البحرين خلال تلك الفترة، ومنهم محمد بونفور، ومحمد غلوم، والشاعر سعيد العويناتي، والدكتور هاشم العلوي، وغيرهم.
أما انتقال رفيقنا المناضل أحمد الشملان من حزب إلى آخر: من حزب البعث، إلى جماعة القوميين العرب، ومنهم إلى الجبهة الشعبية، ومنها إلى جبهة التحرير التي استقر عليها في النهاية، فإن ذلك لا يعني البتة أن رفيقنا كان لا منتميا أو انتهازيا يقفز من مذهب إلى آخر، ومن جبهة إلى أخرى، لأجل مصالح شخصية، أو من دون وعي أو تفكير، كما قد يعتقد البعض، بل ان ذلك يعني أنه كان ينتقل بالتدرّج “من الحسن إلى الأحسن”، إنْ جاز التعبير، من مذهب إلى مذهب آخر أطور، ومن فكر إلى فكر أكثر تطوراً، فانتقل من الفكر القومي الضيـّق (البعث وحركة القوميين العرب) إلى الفكر الأوسع بانضمامه إلى الجبهة الشعبية، فالفكر الماركسي الأُممي الأرحب (جبهة التحرير).
أما قيام رفيقنا أحمد الشملان باللقاء بالشخصيات الدينية، ومنهم الشيخ عبدالأمير الجمري، رحمه الله، فلا يعني أبداً أن رفيقنا قد قام بذلك بصورة شخصية بحتة، بل كان ذلك ضمن الخط النضالي العام الذي تبنته “جتوب” حينها. ومن المعروف أن الأحزاب الماركسية تعي جيداً الفرق بين القوى الدينية المناضلة لأجل مصالح الطبقات المستغَـلة (بفتح الغين) الكادحة المستضعفة، والقوى الدينية الرجعية السلطوية المتواطئة مع مصالح الطبقات المستغِـلة (بكسر الغين)، مُدركةً الفرق بين التنسيق والتعاون، حتى التحالف المرحلي، مع القوى الدينية وغيرها من ناحية، وبين الانضواء تحت عباءتها وتقمّص مواقفها السياسية من ناحية أخرى. وخير مثال على ذلك هو تعاون حزب “تـوده” (حزب الشعب) الماركسي الإيراني مع القوى الإسلامية أثناء ثورة الشعب الإيراني التي قادها الإمام الخميني، ودعمه لها بكل إخلاص وتفان، بل تنظيم الكثير من المسيرات والتحركات في الشارع الإيراني، وذلك بالرغم من معرفته معرفة جيدة احتمال تنكـّر الحركة الدينية الإسلامية لموقفه الوطني والقضاء عليه بعد أن تكون شوكتها قد قويت وأصبح زمام الأمور في يدها. وهذا ما حدث فعلاً، واسألوا جماعة “مجاهدي خلق” عن ذلك وهم الذين كانوا يعايرون حزب “تـوده” وينتقدونه لمساندته ودعمه للثورة الإسلامية الخمينية، بل كانوا يتنبـّأون بما سيؤول إليه مصير هذا الحزب. وهذا ما حدث بالفعل حيث تم إعدام قياداته شنقـاً أو تعذيبهم حتى الموت من دون رحمة أو شفقة، ناهيكم عن الزج بأعضائه في السجون وتشريدهم خارج البلد.
وعندما كان أحمد الشملان يصافح شيخ الدين عبدالأمير الجمري فذلك يعني أن جبهة التحرير هي التي كانت تصافح رمزاً من رموز الحركة الدينية بكل وعي وإدراك.
ولذلك لا معنى للقول إن “الشملان لمْ يستخدم أبداً في كل مقالاته عن الحركة الدينية كلمتي “الظلامية” و”الرجعية”… لإثبات أن “بوصلته كانت إنسانية”.(3).
فعدم استخدامه لمثل هاتين الكلمتين وغيرهما لا يعني البتة أنه لـمْ يدرك طبيعة الحركة الدينية وفكرها، إلا أن التكتيك المرحلي كان يتطلب ذلك. وهذا بالطبع لا ينتقص من الميزة الإنسانية التي كان، ومازال، رفيقنا أحمد الشملان يتميز بها ويمارسها.
هوامش:
(1) العبارات الموضوعة بين الإشارات العلوية الصغيرة “…” هي العبارات الواردة في مقالة الأستاذ حافظ الشيخ صالح المنشورة في عموده “القول” بعنوان “أحمد الشملان” في جريدة “أخبار الخليج” الصادرة بتاريخ 17 نوفمبر 2009م.
(2) مقالة الأستاذ حافظ الشيخ صالح نفسها المشار إليها في الهامش السابق.
(3) مقالة الأستاذ كريم رضي المنشورة في جريدة “الوقت” الصادرة بتاريخ 23 نوفمبر 2009م.