خلصنا أمس إلى أن الكتلة الديمقراطية المنشودة، حتى لو كانت واسعة، فإنها لا يجب أن تكون هلامية، فاقدة للمحتوى السياسي والاجتماعي الذي تنشأ عليه ضرروة أن تكون مكافحة، غير مهادنة، حين يتصل الأمر بضرورات البناء الديمقراطي، بما يتطلب منها اظهارالشجاعة في البرنامج السياسي وفي الأداء المترتب عليه.
ومفيد هنا التذكير بأن الفكرة الليبرالية لحظة انبثاقها الأولى كانت فكرة ثورية، تغييرية، مقارعة لكوابح التقدم على أنواعها، ويفترض في مَن يريد أن يضع نفسه في الخانة الليبرالية أن يتحلى بهذه الروح.
والتفريق واجب بين هذه الدعوة وبين نزق الجمل الثورية أو التطرف في العمل السياسي، فحجم التغييرات التي تمت في العالم وفي المنطقة وكذلك في البحرين ذاتها، والنتائج التي يمكن استخلاصها من مجمل التجارب السابقة تفرض تفكيراً سياسياً جديداً على المعارضات بصفة عامة، وعلى القوى الديمقراطية بشكل خاص، من خلال التأكيد على أهمية الأساليب السلمية في العمل السياسي ونبذ العنف، وبناء مؤسسات المجتمع المدني من أحزاب سياسية ونقابات عمالية واتحادات جماهيرية للنساء والشباب والطلبة، والعمل على جبهة الثقافة والفن في اتجاه تعزيز الإبداع وحرية الفكر.
ان الدولة غيرت من بعض أوجه أدائها وتعاملها مع المجتمع، في نتيجة استيعابها للمتغيرات في العالم ومن حولها، وعلى طريق الاستجابة لبعض أهداف النضال الوطني والشعبي المديد، وعلى المعارضة أن تستوعب هذا التغير، فتدرك أن المرحلة الجديدة تتطلب أداء مختلفاً من جانبها هي الأخرى.
ولا يعني ذلك التراجع عن أهداف النضال السياسي والاجتماعي، وإنما إعادة النظر في بعض أشكاله، وفي بعض أوجه التفكير السابقة، التي لم تعد تلائم الوضع الجديد، في صورة تجمع بين صلابة الجوهر ومرونة الشكل، من أجل حمل الدولة على الانتقال في تعاملها مع المعارضة من روح الخصومة إلى روح الشراكة، التي تفترض الإقرار بدور المعارضة وحيوية وجودها وتأثيرها من أجل تقدم المجتمع وديناميكة تطوره.
هذه الفكرة تُقربنا من المفهوم الذي دعا إليه غرامشي حول ما دعاه ب«حرب المواقع”، ورغم الإيحاء العسكري الذي يشي به هذا المفهوم ظاهراً فانه أبعد ما يكون عن ذلك، فالمقصود هنا أن تُحسن القوى الديمقراطية من التأثير الذي يجب أن تمتلكه في المجتمع، من خلال اكتساب مواقع جديدة في المجتمع المدني وفي الحياة السياسية وفي المجالس المنتخبة: مجلس النواب والمجالس البلدية، وكذلك في الحياة الثقافية والفكرية والإعلامية، بحيث تشكل قوة ضاغطة في دفع تطور الأوضاع في البلاد نحو آفاق أرحب، سياسياً واجتماعياً وثقافياً.
وتتشكل ظروف موضوعية تخدم هذه الإستراتيجية فيما لو أصبحت نهجاً للحركة الديمقراطية في البلاد، فالبحرينيون يستحقون حياةً أفضل، ويتيح لهم وضع الانفراج السياسي والعمل العلني الراهن اختبار البرامج السياسية والاجتماعية لمختلف القوى، وإذ تبرهن التجربة على محدودية أفق القوى المتسيدة للساحة الآن، فان الناس تبحث عن البديل الذي لا يمكن أن يكونه أحد سوى القطب الديمقراطي القوي والموحد، إذا نجح في توسيع المساحة التي يشغلها في المجتمع، وأبرز، أكثر فأكثر، وجهه المستقل الذي تطالب به فئات متزايدة في المجتمع. ولنا مع هذا الموضوع عودة.
صحيفة الايام
21 يناير 2010