جرت العادة أن الجيل الأكبر ينظر إلى الجيل، أو الأجيال التي تليه على انها أقل شأنا منه. وغالبا ما يقول الكبار موجهين الحديث لمن هم اصغر سنا: “ كنا أكثر جدية منكم وأكثر مثابرة، ولو توفرت لنا الفرص المتاحة لكم اليم لكنا… وكنا…” الخ.
والحق أن هذه الروح الأبوية تبدو لازمة لدى الأجيال الأسبق عادة، لأننا في صغرنا سمعنا كلاماً مشابهاً من آبائنا. لكن الحياة تقدم برهانها ان الأجيال الجديدة، كقاعدة، هي أجيال أكثر ذكاء وأكثر معرفة، وان ما توفر لها من ظروف تنشئة أفضل يجعلها، في الإجمال، أكثر قابلية للتعاطي مع مسائل الحياة فيما لو قُورن الأمر بقدرة الجيل، أو الأجيال الأسبق.
إننا لا نتذكر كل تفاصيل طفولتنا، ولكننا بالتأكيد قادرين على ملاحظة أن أبناءنا اليوم هم افضل منا يوم كنا صغارا في أمور كثيرة. وما زلت اذكر رسالة من قارئةٍ شابة، طالبة في الجامعة، تحدثت فيها عن ذات المقارنة، ولكن في اتجاهٍ معاكس تماما.
فهي رأت أن الجيل الجديد من الشباب والشابات ينشأ في فترة انعدام المثال أو الفكرة التي يتبناها، وهي أكثر من ذلك تغبط جيلنا لأنه كان برأيها أكثر تألقا وانسجاما مع ذاته، وان الفترة التي عاشها مأخوذاً بهدفٍ تثير لدى الجيل الجديد نزوعاً من حنين، لأن هذا الجيل، جيلها، أفاق على الهزائم والخيبات والانكسارات، لذا فانه يعاني من التمزقات والاحباطات.
وربما وجب التدقيق بالقول أن الجيل الأسبق بدوره لم يعش فترة انتصارات باهرة، ولكن الفارق الجوهري أن الجيل الجديد أبصر الدنيا وقد أصبحت الهزائم مشروعاً مُنجزاً، انه بتعبير آخر تجرع نتائجها المرة، فيما كان الجيل الأسبق شاهداً على الحدث نفسه قبل أن يتحول إلى نتائج وتداعيات.
رسالة هذه الطالبة نموذج أو عينة بين نماذج وعينات أخرى كثيرة تدل على أن الجيل الجديد، على خلاف الفكرة الشائعة عنه، هو الآخر جيل مسكون بالقلق وبالبحث عن مثال ومنظومة قيم، ومعنيٌ أن يجعل لحياته هدفاً ورؤية، وفي كل الأحوال فان الرهان أو التعويل هنا إنما يدور عن شريحة أكثر حساسية تجاه الجديد وتجاه القضايا العامة، وان كل الخراب الذي عشناه ونعيشه لم يفلح في إطفاء جذوة الوعي، لأن هذا الخراب ذاته فيه من العناصر ما هو كاف لإيقاد هذه الجذوة حتى إن أوشكت على الانطفاء.
هذا الجيل بحاجة لمن يأخذ بيده، لمن يرهف السمع لقلقه وهواجسه وطموحاته، أن يرى فيه المستقبل الذي، مهما غالبنا السواد، نطمح في أن يكون نيراً ومضيئاً.
يحضرني هنا ما كتبه مبدع من زماننا هو الراحل الكبير سعد الله ونوس في إهداء أعماله الكاملة إلى ابنته “ديمه”، ومن خلالها إلى جيلها والأجيال التي تليها، حين تمنى أن تكون الطاقات المخزونة في أعماقهم أقوى من الهزيمة، ومن يدري، فقد يجدون الجملة السحرية التي يغدو بها الزمن جميلا والوطن مزدهرا .
صحيفة الايام
19 يناير 2010