حضرَ التطورُ التجاري في منطقة الخليج خلال القرن الثامن عشر وما تلاه، الأجواءَ لنمو المدنِ الصغيرةِ في الخليج، وخاصة المدن البحرينية، حيث تمثلُ جزرُ البحرين سفينةً صلبةً راسية في منتصفِ الخليج العربي جاهزةً لمدِ العابرين بالمؤنِ والمياه ولتسلم البضائع وتصدير بعض المنتجات، ولم يكن بالإمكان لتلك المدن الصغيرة أن تكونَ سوقاً واسعة، نظراً إلى قلة السكان، وضآلة الإنتاج، لكن إنتاج اللؤلؤ لعبَ دوراً في ظهور السوق، على الرغم من هيمنة العلاقات ما قبل الرأسمالية فيه.
ولعبتْ سلعةُ اللؤلؤِ دوراً في ربط البحرين بالسوق العالمية، وقامت بالدور التحضيري لنشأة السوق بشكلِها الرأسمالي، وفي عقدِ العشرينيات كان الصراعُ على أشدهِ لتطوير إنتاج الغوص، وتحويله إلى نمط عصري، لكن ذلك لم يتم. وتعطي (محكمة السالفة) صورةً عن تداخل كبار الشيوخ والتجار البحرينيين والأجانب في حلِ إشكاليات هذه المهنة وقضاياها، مع غياب المنتجين، وهي صورةٌ عن بدايةِ ظهور جهاز رسمي وأهلي مشترك لبحث قضايا السوق ومشكلاتها العملية.
إلا أن تطورَ السوق الرأسمالية البحرينية لم يعتمدْ على سلعة اللؤلؤ الغالية، لأنها استنزفتْ ذاتَها في تخلفِها التقني ولتدني العلاقات الإنتاجية التي ترفعُها لأعناقِ الحسان بعد ذلك، وطرحت اليابان نسخاً مقلدة جعلت السوق في حالة انهيار متعدد الأشكال. ولهذا سنجدُ في سنة 1935 حالةً أشبه بالمجاعة:
(توفي في المنامة 83 شخصاً معظمهم من النساء والأطفال وذلك بعد تجمع حوالي 2000 شخص خارج منزل أحد التجار بعد سماعهم أن ذلك التاجر سوف يقوم بتوزيع مساعدات على الفقراء والمحتاجين، وبسبب تدافعهم داخل ممر ضيق يؤدي الى ذلك البيت ولضيق التنفس حاول بعضهم الخروج بأقصى سرعة فسرت حالة من الهلع والرعب فتدافعوا وسقط الكثيرون منهم على الأرض حيث سحقوا وراح منهم 83 قتيلا).
في هذا العقد الثلاثيني المرير الذي يمثلُ عقدَ الكساد والفقر وضعف السوق الوطنية، تم اكتشاف النفط وتصدير أول شحنة منه بكمية تجارية في 1 يونيو 1932، لكن هذا التصدير لم يفعل شيئاً كبيراً في تلك الحالة الاقتصادية المتدهورة لكن التغيير قد بدأ.
إن القوةَ الاقتصادية التي كانت تنمو هي التجارة الخاصة، وقد ظهرت أسواقٌ بحرينية عديدةٌ في المنامة والمحرق والقرى، وراحت هذه الأسواقُ تجذبُ تجاراً من مختلف البلدان.
ولعبت الشركاتُ البريطانية دوراً أساسياً بربط البحرين بالسوق العالمية:
(أما التجارة فقد اعتمدت بالأساس على موقع البحرين الاستراتيجي، وقد نمت مع بدايات القرن العشرين بشكل ملحوظ. فعلى الرغم من استعمال السفن التجارية الكبيرة العاملة بالبخار التي كانت تمتلكها الشركات البريطانية والتي أخذت تحل محل السفن الشراعية وتؤدي إلى انحطاط التجارة فإن البحرين لم تتأثر اقتصادياً باستعمال هذه السفن، ولاسيما أن شركة الملاحة الهندية البريطانية يBritish India Steam Navigation Company التي سيطرت على النقل البحري في الخليج اتخذت من البحرين مركزاً لتصريف البضائع التي تجلبها من الهند وغيرها من الموانئ الرئيسية، ومن ثم توزع على مناطق الخليج العربي، فضلاً عن ذلك فقد بدأت أنواع البضائع التي تصدر من الهند إلى البحرين تتغير خلال الربع الأول من القرن العشرين من بضائع هندية إلى مصنوعات بريطانية، (تاريخ غرفة التجارة البحرينية، بقلم د. صلاح عريبي).
لكن كان لابد من ظهورِ عناصر تجاريةٍ وطنية بحرينية تدرسُ مثل هذا الدور وتقلده ومن ثم تتفوق عليه لاحقاً، وتعربه، وكان هذا من دور عائلة كانو خاصة.
وكانت عائلة كانو إحدى هذه الإسر التي انجذبت إلى هذه البقعة قبل قرنين من الزمن، وراح مؤسُسها الأولُ يكرسُ تجارتَهُ الخاصة بصعوبةٍ وسط سوق ضعيفة.
(يعد بيت كانو من أبرز البيوتات التجارية الخليجية، والمتتبع لتاريخ هذا البيت العريق الذي يرجع في الأصل إلى شمال الرياض عاصمة المملكة العربية السعودية، ومن ثم ساحوا على ضفاف الخليج، الكويت، العراق، فارس، فالبحرين منذ بداية القرن التاسع عشر حيث استقروا فيها تحت عمادة الحاج بلال، ذلك الإنسان الذي أخذ يشتغل ببيع المواد الاستهلاكية من خلال متجره الصغير في سوق المنامة)، (صحيفة العهد، سيرة عائلة كانو). (أدت عقودُ القرن التاسع عشر والثلث الأول من القرن العشرين إلى حدوثِ عمليات تراكم في الرأسمال التجاري، وتمدده في تجارة اللؤلؤ وفي العقار، لكن التحول سيظهر مع بداية تلك الدفعة الأولى من النفط التي أبحرت في أول يونيو سنة .1932
وتظهرُ في حياةِ أسرة كانو لمحاتٌ عن صعود الرأسمالية التجارية إلى حقول الخدمات المختلفة والتوجه للرأسمال المالي في ذروة التطور.
(يرجع بيت كانو التجاري إلى المؤسس الحقيقي عميد الأسرة الحاج يوسف بن احمد كانو المولود عام 1868م، وهو الذي تحمل مجموعة شركات كانو اسمه). وظهر مكتب تجاري للعائلة في الخبر، سنة 1948، وظهرت وكالة السفريات فيها كذلك وتنامت شركات النقل والملاحة والخدمات المالية وغيرها من خلال تلك التجارة الأولى من البحرين حتى فاضت على المنطقة.)، (المصدر السابق). (تعطينا هذه الأسرةُ نموذجاً عن نمو الرأسمالية التجارية إلى حقولٍ اقتصادية شتى، وبطبيعة الحال كان النمو يستثمر كل الاحتياجات الاقتصادية المختلفة التي تظهر في البحرين والمنطقة، خاصة في سلعة (النقل)، هذه السلعة التي ستغدو محور التطور لعقود طويلة، وذات الأهمية البالغة، تتجاوز صغر السوق البحرينية وضيقها، وطبيعة نظامها، إلى فضاء منطقة مفتوحة الاحتمالات الاقتصادية والسياسية، وذات خيارات كثيرة، مما جعل العائلة التي لم تزل تحتفظ بطابعها العائلي الاقتصادي، تغدو من أكبر الفاعليات الاقتصادية في المنطقة والعالم!
إن البضاعة العادية التجارية تتحولُ لدى العائلة إلى ميدان آخر، والرأسمالُ التجاري ينتشرُ في رأسمالٍ مختلفٍ مهم، لتتنامى الفوائض وتتوجه إلى الرأسمال المالي، من دون المرور بالرأسمال الصناعي، بخلاف الرأسمال الغربي في بدء ظهوره بأوروبا الجنوبية والغربية.
صحيفة اخبار الخليج
15 يناير 2010