في نوع من التحوير لمفهوم الكتلة التاريخية الذي كان أحد الأدوات المفاهيمية في المنظومة المنهجية للمفكر الايطالي انطونيو غرامشي، دعا محمد عابد الجابري إلى إقامة الكتلة التاريخية في البلدان العربية التي تضم اتجاهات وتنظيمات من أهواء سياسية وفكرية مختلفة لانجاز المهام المتفق عليها في المدى التاريخي المنظور.
في بدايات المشروع الإصلاحي في العام 2001 استعار الأخ عبدالله جناحي هذه الفكرة من الجابري داعياً لتطبيقها في البحرين، لكي تشمل هذه الكتلة إضافة الى مكونات التيار الوطني الديمقراطي الاتجاهات الاسلامية الداعية الى الديمقراطية والمؤمنة بها وكذلك ما وصفه الأخ عبدالله بالجناح الاصلاحي في الحكم.
أتت هذه الدعوة في ذلك المناخ المفعم بالتفاؤل والأمل، وشخصياً رأيتُ فيها، يومذاك، محاولة للدفع بالنقاش نحو التأصيل الفكري الذي يتجاوز هواجس السياسة اليومية التي تستغرق الناشطين فيها، فلا يعود بوسعهم رؤية سوى التفاصيل المتلاحقة، دون التبصر كفاية في السياق الذي تندرج فيه، أو يمكن أن تؤدي اليه.
سارت مياه كثيرة تحت الجسور خلال السنوات الماضية، بحيث ان حلم بناء الكتلة التاريخية تجاوزه الزمن، لأنه سرعان ما ظهر أن لكل الذين أظهروا حماسهم لمشروع الإصلاح عند انطلاقته مفهومهم الخاص لهذا الاصلاح، وأن لدى ممثلي هؤلاء من القوى السياسية والاجتماعية والأجهزة الحكومية رؤيتهم وأجندتهم التي لا تتطابق، وربما حتى لا تتقاطع بالضرورة، مع رؤية سواها، بل ان مصلحة بعض هؤلاء تكمن في التعاطي مع المكونات المتفرقة المجزأة، لا مع الكتل الكبيرة الموحدة.
ينقص الدعوة لإقامة الكتلة التاريخية، في ظروفنا اليوم شروط كثيرة، من أهمها وفي مقدمتها عزوف، لا بل ورفض من يفترض أن يكونوا أطرافاً فيها لمثل هذه الفكرة، التي لا يجدون فيها ما يجذبهم طالما كانت المصالح الفئوية الآنية لهم سيجري تأمينها، وهذا ما يحدث بالفعل أمام أعيننا جميعاً.
ولا يقل أهمية عن ذلك ضعف من يفترض فيهم أن يكونوا النواة الصلبة للكتلة التاريخية، فهشاشة هذه النواة تجعل من الفكرة كلها متعذرة، لان هذه النواة، إذا كانت صلبة، هي التي يجب أن توجه الكتلة في الاتجاه الصحيح، اتجاه البناء الديمقراطي العصري بما يستلزمه من حقوق سياسية ودستورية ومن خطط تنموية جادة تحارب الفساد المالي والإداري وتؤمن مصالح الفئات الكادحة الواسعة.
ونعني بهذه النواة التيار الوطني الديمقراطي، المطالب، أولاً، بالتوافق على منطلقات عمل رئيسية، تتطلب من أطرافه حواراً معمقاً وأكثر جدية، وهذا مصدر دعوتنا لبناء الكتلة الديمقراطية التي نراها أولاً: مهمة ممكنة وواقعية، ونراها ثانياً: مهمة ضرورية وملحة، وتتطلب منا جميعاً مقاربة جريئة للتغلب على العوائق التي نراها ذاتية كامنة في تنظيماتنا أكثر مما هي موضوعية، لا بل يصح القول ان الظروف الموضوعية، كما كنا قد أشرنا إلى ذلك في بداية هذه السلسلة من المقالات، باتت أكتر نضجاً وملائمة للشروع في مهمة بناء هذه الكتلة الديمقراطية.
للحديث تتمة غداً
صحيفة الايام
13 يناير 2010