يتحدد الغرب المسيطر الآن بالقوى المتنفذة من الطبقات الرأسمالية التي هيمنت عليه خلال القرون الأخيرة، واتاحت بعض الحريات والتطور الاجتماعي الذي كان أيضاً من نضال القوى الشعبية العاملة، وقد حدد الغرب خلال الفترة الأخيرة سياسته بالسيطرة على الموارد الثمينة في البلدان العربية والإسلامية، ومنعها من التوجه إلى الاشتراكية في العقود السابقة، ومنعها من الوقوع تحت أيدي القوى الدينية المتشددة، حسب تعبيراته.
كما عمل على تقويض الأنظمة “الاشتراكية” السابقة ودفعها إلى الانهيار عبر سباق التسلح وغير هذا من السياسات التي شكلت عالم ما بعد الحرب الباردة، أي سيادات رأسماليات غربية على رأسماليات متخلفة في العالم الآخر.
وفي سياق السيطرات هذه هناك ثيمة السيطرة الدينية والثقافية، وتعطي مجمل هذه السيطرات نفخاً في الدول ذات الإرث اليهودي – المسيحي كإسرائيل وجنوب افريقيا، ونشراً لهذه الثقافة الدينية اليمينية التي هي أداة أخرى للمقاربة مع هيمنة الرأسمالية الغربية المتطورة.
ويأتي في سياق هذا توسيع دور حلف شمال الأطلسي ونشره في القارات والمحيطات الأخرى.
إن هذه السياسة تؤدي إلى معارضة قارات الفقر والتبعية خاصة في البلدان ذات التطور الرأسمالي المتدني وذات التقاليد الدينية المسيطرة التي لم تكتسبْ أي انفتاح خلال حكم الغرب نفسه كباكستان، التي فـَرضت عليها سيطراته المديدة حكومات عسكرية ضخمت دور الجيش وقواه البيروقراطية والعنفية والاستخباراتية الفاسدة، ثم جاء استخدام الدين بصورة ابتذالية ديماغوجية كما حدث في حروب افغانستان المرعبة.
وليست الحال بالدول الإسلامية الأخرى يختلفُ كثيراً عن الحال في مثلث باكستان وافغانستان وإيران.
والحكومات الغربية الرئيسية في كل بلد على حدة ومجتمعة كذلك وهي الحكومات المتبدلة، لا تعترف بسياساتها السابقة، نظراً لتعدد الأحزاب والقوى السياسية المتعاقبة، ولا تعترف بسيطرة الأغنياء الكبار فيها، المعبرون عن طبقات معينة شبه خالدة على سدة الحكم.
لا تعترف بأن السياسات الحاكمة الرأسمالية المسيطرة على خرائط الدول الأخرى وثرواتها هي سبب احتدام العالم بالصراعات، وأنها هي التي توقد النيران في حطب الاستغلال والامتيازات ونفوذ الشركات.
ومن الواضح ان حكومات الأقليات الرأسماليات الغربية البرلمانية لم تجذر العلمانية السياسية، فقد حملت وحمت مضمون اليهودية – المسيحية السياسية، وبالتالي عبرت عن سياسات يمينية رأسمالية دينية، وظهرت بمظهر المستمر في عمليات الحروب الصليبية ولكن بأشكالٍ أخرى، وهي تظهرُ للعامةِ البسطاء المسلمين بمضمونها الحقيقي وليس بشكلِها الحضاري المزوق ثقافيا.
ويبدو ذلك واضحاً في بؤرة العالم العربي – الإسلامي وبؤرة المشكلات بين الغرب والعرب والمسلمين وهي مشكلة إسرائيل كدولةٍ دينية توسعية دكتاتورية.
لقد كان يُنتظر من علمانية الغرب تذويب اليهود كمواطنين متساوين مع إتباع الديانات الأخرى فيها، وبتكوين علمانية حقيقية تنزع الطابع الديني عن الدول الغربية، وعن السياسة الغربية، وليس بخلق جيتو كبير مسلح حتى أسنانه وذي مظهر علماني زائف، وقد تجلى أخيراً بشكل صارخ فيما يُسمى الاعتراف بيهودية إسرائيل، وهو أمرٌ يقوضُ العلمانية في العالم الإسلامي كذلك.
وبضرب الغرب للتجارب “الاشتراكية” والقومية التحررية لم تبق من كيانات مستقلة سوى الأشكال العبادية التي تحولت إلى أشكالٍ جهادية. وكان الإبقاءُ على الدول المحافظة العربية الإسلامية ذات الموارد الغنية المُستنزفة يكملُ صورة الحروب الصليبية، خاصة مع نشر “الحريات” فيها، التي تعني توسيع حضور الثقافة الدينية اليهودية – المسيحية اليمينية، ثم تفجير الصراعات الدينية بسبب ذلك وبأسباب أخرى.
هذه البؤر الإشكالية أوجدت الحربَ الراهنة بين العالم الإسلامي والغرب الحاكم في العالم، وتم جر القوى العسكرية الغربية لحروبِ عصاباتٍ طويلة في المناطق الإسلامية الجبلية والوعرة، وهي حروبُ عصاباتٍ سوف تطول وتنهزم فيها جيوشُ الغرب وتؤدي إلى تغييرات كاسحة رهيبة في المنطقة.
لم تعد القوى العربية والإسلامية المحافظة بقادرة على وقف هذا الطوفان، لبطءِ سياسات التغيير والإصلاح فيها، خاصة في جذب المناطق الصحراوية والريفية والمدن الفقيرة إلى التنمية والتحديث، ولإرتباط هذه السياسات بعقد المصالح المتواشجة مع مصالح الغرب الرأسمالية، مما يجعل الحروب هي العملية “التنموية المستدامة” لتقوية الجيوش وشركات التسلح على ضفتي العالمين الغربي والشرقي وهدرها للميزانيات والموارد.
الصدامُ (الجوهري): غربُ الشركات والجيوش غير الديمقراطي وغير العلماني وشرقُ التدين والعداوة المطلقة، صدام يقود إلى استنفار الشرق لكل مخزوناته الرهيبة، وشحن الثارات والارهاب، وجر المزيد من السكان للعمليات الفوضوية والعنفية، وهذه كلها سوف تنعكس على حياة المواطنين الغربيين وفقدانهم ذويهم واحتجاجاتهم على سياسات الحروب.
ومن الضروري هنا عدم ربط هذه الحرب الكلية بمنظمة وجماعة وبدولة ما ربطا إطلاقيا، فالمسألة كما رأينا هي كلية عامة مركبة ومعقدة، والصدام الجوهري المدمر يأخذ طريقه بفضل الضربات العسكرية وجمود الرؤى السياسية عند كلا الجانبين.
إنها حربُ عصاباتٍ طويلة تغدو تاريخية أكثر فأكثر لا يخسر المهاجمون فيها الكثير ويتعرض الغرب لنزيف بشري وتنام للعنف وسيطرات العسكر.
خسائرٌ على الجانبين وتدهورٌ عامٌ وآفاق سياسية مشحونة بالتخلف والكراهية.
تسود لدى الغرب الحاكم الراهن لحل هذه الإشكالية الكبرى الحلول الجزئية والنظرات القاصرة، بسببِ كونِها تعبيرا عن سيطراته الطبقية، على المستويين المحلي والعالمي، وإذا لم تتوسع القوى الديمقراطية الغربية والعلمانية والسلمية لتفرض رؤاها على مراكز القرار، فإن الحرب تغدو مفتوحة، ومفيدة للقوى التي تشعلها، ويدفع المواطنون في الغرب والشرق أثمان هذه السياسات الدموية والمتعصبة.
صحيفة اخبار الخليج
12 يناير 2010