ما بين عام 1991 العام الذي انهار فيه الاتحاد السوفييتي والذي آلت فيه الزعامة الآحادية للولايات المتحدة الأمريكية على العالم أجمع، وعام 2009 تسعة عشر عاماً كانت كافية لإحداث تغيير نوعي واضح في ميزان القوى لصالح قوى عالمية جديدة صاعدة على حساب قوى عالمية قديمة آفلة ظلت دهراً من الزمن تملي وتصوغ سياسات وتحدد وجهات سير نظام العلاقات الدولية وكافة بلدان المعمورة التي تنتظمه.
وكم كان هذا التغيير النوعي جلياً وواضحاً في اليومين الأخيرين، الحاسمين، لمؤتمر الأطراف الخامس عشر للتغير المناخي (17 و18 ديسمبر 2009)، الذي حضره وشارك في جلساته الماراثونية 119 زعيماً ورئيس حكومة من أصل 192 دولة شاركت في المؤتمر.
لقد ظهر من خلال جلسات المؤتمر المفتوحة أن الذي تسيَّد أعمال المؤتمر وسيطر على أجوائه ولم يكونوا زعماء الدول الرأسمالية المتقدمة، كما كان يجري الحال على مدى أكثر من قرن من الزمان، وإنما زعماء الصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا الذين كانت خطاباتهم المنقولة عبر الأثير أكثر وقعاً وتأثيراً من خطاب الرئيس الأمريكي باراك أوباما الذي غالط الحقائق في خطابه الذي ألقاه في اليوم الأخير من المؤتمر بعد الاتفاق الخماسي غير الملزم (Not binding agreement) الذي توصلت إليه الولايات المتحدة والصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا وسمي باتفاق كوبنهاجن (Copenhagen Accord)، حين اعتبر أن هذا الاتفاق أول خطوة ذات معنى (A meaningful first step) متجاهلاً اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ (UNFCCC) الملزمة لكافة الدول الأعضاء المصادقة عليها منذ عام 2005 وبروتوكول كيوتو لعام 1997 الذي انفردت الولايات المتحدة بعدم الانضمام إليه بل ومحاربته.
لقد كان خطاب الرئيس أوباما الذي واصل فرض نفسه، على جري عادة الرؤساء الأمريكيين، ممثلاً ومتحدثاً باسم كافة الدولة الغربية، من دون تفويض منها - لقد كان خطاباً وعظياً ‘وأستاذياً’ جداً، يمثل الولايات المتحدة التي كانت وليس الولايات المتحدة الجديدة الغارقة في أزماتها المتصلة مباشرة بصميم شيخوخة نموذجها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
في حين كان خطاب الرئيس البرازيلي على سبيل المثال، وإلى حد ما أيضاً خطاب الرئيس الجنوب أفريقي، خطاباً يحاكي الحاضر ويستشرف المستقبل، ويعبر عن ميزان القوى الجديد الذي صار يعبر عن الأحجام الحقيقية للقوى الاقتصادية العظمى، الكلاسيكية والصاعدة معاً.
لقد خلقت التبدلات العميقة في الطاقات الاقتصادية للبلدان المتقدمة والبلدان الصاعدة، الأرضية اللازمة للتبدلات القادمة في موازين القوى السياسية والعسكرية بلغة الأرقام، اليوم فإن اقتصاد البرازيل يتساوى تقريباً مع اقتصاد الهند والاقتصاد الروسي (بحوالي 8,1 تريليون دولار).
ومثلها مثل الهند وروسيا، والصين طبعاً، بدأت البرازيل تعضد قوتها الاقتصادية المتنامية بتقوية وتوسعة نطاق ترسانتها العسكرية. وقد شكل الثلاثي روسيا، البرازيل والصين في العام الماضي كما هو معروف تكتلاً سياسياً عالمياً أُطلق عليه بريكس (Brecs) وهي الحروب الأولى من أسماء الدول الثلاث.
طبعاً لازال العالم واقعاً تحت سطوة النظام الدولي القديم بزعامة الولايات المتحدة التي تحاول بشتى السبل الاحتفاظ بمكانتها الزعامية الانفرادية وامتيازاتها (قبالة تكلفتها طبعاً) وقطع الطريق على المنافسين، التقليديين والطارئين، لها على هذه الزعامة.
إلا أن الحراك الذي أشرنا عاليه إلى بعض أوجه تمظهراته، يشكل في واقع الأمر إرهاصات أولية لنظام عالمي جديد يتسم بنزوع عدد من الدول النامية للتعملق والحضور القوي في الحياة الدولية اعتماداً على قوتها الاقتصادية الصاعدة.
قبل الصعود التاريخي لكل من الصين والهند والبرازيل في أثرها، كانت هناك دول أخرى قد سبقتها على هذا الطريق. اليابان اعتباراً من ستينيات القرن الماضي والتي قفزت إلى المرتبة الثانية عالمياً بعد الولايات المتحدة الأمريكية من حيث حجم الاقتصاد، وكوريا الجنوبية كأحد النمور الآسيوية التي استفادت من التجربة اليابانية ونسجت عليها.
إنما الفرق بين هذه الدول و’الأسود’ الجديدة الصاعدة: الصين والهند والبرازيل أن الأخيرة دول مستقلة صاحبة قرار سيادي، بينما اليابان وكوريا الجنوبية مازالت تخضع لأشكال من النفوذ العسكري والسياسي الأمريكي، ما يمنعها من صياغة وانتهاج سياسة نابعة من مصالحها الوطنية وتقررها سيادتيها الكاملة على مصادر تراكمها وآليات إدارتها في الداخل والخارج.
يكفي أن نشير في هذا المقام إلى الكتاب الذي أصدره مطلع تسعينيات القرن الماضي، الكاتب الياباني المعروف شينتارو اشيهار (والذي انتخب فيما بعد عمدة لميدنة طوكيو) والذي حمل عنوان ‘اليابان التي تستطيع أن تقول لا’ (Japan That Can Say No) والذي شرح فيه كيف أن القوة الاقتصادية اليابانية تؤهلها لأن تعترض على السياسات الأمريكية وتقول لها لا، إلا أن الوجود العسكري الأمريكي والنفوذ السياسي الأمريكي الممتد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تمنعها من ذلك.
صحيفة الوطن
9 يناير 2010