سادت حقبتي الستينيات والسبعينيات أحلام رومانسية تتعلق بالوحدة العربية والأممية، وإلغاء الطبقات والقضاء على الطائفية السياسية.
إلا أن سلسلة الهزائم التي تعرضت لها حركات التحرر العربي بدءا بهزيمة سبعة وستين ووصلواً إلى انهيار الاتحاد السوفيتي، وما انتجاه في المقابل من تنامي ظاهرة الإسلام السياسي، وسيادة القطب الواحد، واتساع نفوذ النظم الاستبدادية، كل تلك العوامل جعلت تلك الأحلام الرومانسية تتبدد – أو ربما – تتوارى مؤقتاً.
لقد أدى سقوط مشروع التحرر العربي بفهومه الأوسع الذي يتصل بتحرير الأنظمة من دكتاتوريتها، إلى اتجاهات جديدة توكل كل أحلام التغيير إلى الغيب، تزامن ذلك مع تنامي الفساد والمحسوبية واتساع الهوة الطائفية، وقمع الشعوب وإفقارها، حتى وصل المواطن العربي إلى مرحلة غاب عن طابعها تلك الأحلام المتعلقة بالنهضة والحرية، وسادت في المقابل النزعة الفردية.
كان المواطن العربي يحلم بإلغاء الطبقية والطائفية، وبالعدالة والمساواة، وبتحرير الأراضي الفلسطينية المحتلة. أما الآن فهو يطمح إلى الحصول على كل ما من شأنه تنمية ذاته كالحصول على وظيفة ودخل مجزي، وتعليم أبنائه في مدارس خاصة، والسفر سنوياً إلى أوروبا، دون أن يكترث إلى المفهوم الجماعي للنهضة، بل أن اللهث اليومي إلى لقمة العيش والانجرار وراء الكماليات جعل الكثيرين يتجهون إلى طأطأة الرؤوس والتورط في الفساد .
ولم تلق الطبقات الكادحة وهي التي تعاني من الفقر والإذلال سبيلاً سوى كرة القدم لتعبر من خلالها عن وطنيتها – أو ربما – عصبيتها، فأصبحت الشعوب ترى في فوز منتخب بلادها نصراً يعوضها عن تحرير الأراضي الفلسطينية أو حلم الوحدة العربية أو الاشتراكية وغيرها من سلسلة الأحلام المُحبطة. كان خير دليل على شدة التمزق العربي الأحداث التي ارتبطت بمباراتي مصر والجزائر الفاصلتين والمؤهلتين إلى كأس العالم لكرة القدم. لقد تفنن جمهور الفريقين خلال تلك المباراتين سواء تلك التي أقيمت في مصر أو التي أقيمت في الجزائر في فرط التعبير عن “وطنيتهم” وكأن الحلم العربي بات على مشارف التحقق.
رفع الشعبان أعلام وطنهما ودقت أجراس الحرب التي بدأت بسلسلة الاتهامات والشتم والتخوين في مختلف وسائل الإعلام، ووصل الشحن إلى التشفي بهزيمة مصر عام 1967، التي ردت عليها الجماهير المصرية بمعايرة الشعب الجزائري على دعم نظام الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر للثوار الجزائريين بعد أن كانوا “عبيداً” لدى الاستعمار الفرنسي، حسب تعبير الجمهور المصري، ثم شكك الجمهور المصري بالهوية العربية للشعب الجزائري الذي “لا يجيد نطق اللغة العربية بقدر ما يجيد اللغة الفرنسية”.
هذه الحرب استمرت لتشمل التعدي على مصالح البلدين حيث طال التخريب مصالح مصرية في الجزائر، وأستدعت مصر سفير الجزائر بالقاهرة، وهدد البلدان بقطع علاقاتهما الدبلوماسية، مما دعى الأمين العام للجامعة العربية التصريح بأنه بصدد التدخل لحل – الأزمة -، في الوقت الذي تقف فيه الجامعة العربية عاجزة عن حل الأزمات السياسية والاقتصادية التي تحيق بالدول الأعضاء بدءا باحتلال الأراضي الفلسطينية والعراقية، ووصولاً إلى غياب المشروع العربي المشترك. أن الأزمة ليست أزمة كرة قدم كما قد يعتقد الغالبية العظمة من المتتبعين، إنما هي ظاهرة ترتبط بصلب الأزمة السياسية التي بلغها مشروع التضامن العربي بعد سنوات من القمع والإذلال والتبعية.
لن نقول كما قال زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر حينما تحدث إلى جماهيره قائلاً ” يابه قط سمعت عن منتخب الكيان الصهيوني المحتل واصل إلى كاس العالم.. يابه هذي التنمبه (كرة القدم) بدعه اخترعوها الأمريكان والصهاينة ليخدعوا الأمة العربية والإسلامية”.
إن الواقع يشير إلى أن البدعة هي ما يصطلح بـ”الأمة العربية” حيث أن للأمم شروط تتصل بكيان إقتصادي وسياسي مشترك ضارب الجذور منافس للكيانات السياسية والإقتصادية العالمية، إنما “أمتنا” فليس لها سوى اللهث وراء كرة القدم فهي البديل المتاح، علها تعيننا على اللهو عن هزائمنا المتتالية.