الصورة هي اليوم عماد ما بات يطلق عليه المجتمع الإعلامي، فهي تقدم نفسها كمرجعية أولى وأخيرة، لا يقاس على سواها، بل انها توهم المشاهد أنها هي الواقع. والمذهل في تدفق الصور هو قدرتها الفائقة على تعطيل الحواس الأخرى، وتحفيز الغريزة والمتعة، لأن تلقيها لا يتطلب جهداً أو تركيزاً على خلاف ثقافة الكلمة، فهذه الأخيرة قائمة على توالي الكلمات الأمر الذي يتطلب تفكيك العلاقات العائمة بينها، وبينما الصورة تعطى دفعة واحدة. ولم يعد من السهل رؤية الفاصل بين الوطني والعالمي في الإعلام، هذا إذا كان ثمة من فاصل قد تبقى، فالبرامج التي تلتقطها عبر الأقمار الصناعية تعد لكل المجتمعات، ولكن بمعيار البلد المنتج، الذي ليس من شأنه أن يلتفت إلى أن القيم التي يقدمها تتعارض مع معايير اجتماعية وثقافية في البلدان المختلفة التي تتلقى هذه البرامج. إن التدفق الهائل للصور والرموز على قنوات البث يوقع الإعلام المحلي، في مختلف البلدان، في مأزق، فمع نقص وندرة الصور المنتجة محلياً وإقليمياً يضطر هذا الإعلام لتغطية ساعات البث الطويلة وتعدد قنوات البث لاستيراد المادة المعدة في الخارج، والتي صُنعت في ظروف أخرى، وفي مستوى من التطور الحضاري المختلف، والموجهة لجمهور ذي قيم هي نتاج قرون من التحول التراكمي بحيث لا تولد لديه الصدمة التي تنتابنا نحن حين مشاهدتنا لهذه البرامج. الباحثون في الإعلام يقولون إن المجتمعات الصناعية التي أنتجت الوسائل الإعلامية المتطورة قد دربت ردود فعل جمهورها على هذه الوسائل، ذلك أن ردود الفعل هذه قد مرت بمراحل ثلاث هي مرحلة الانبهار ومرحلة التعقل والرشد ثم مرحلة الإشباع، فيما مجتمعاتنا نحن التي تأخذ بوسائل ليست من إنتاجها وطارئة عليها ووافدة إليها من الخارج، لا تملك المقدرة على التحكم بها لا تقنيا ولا محتوى، لذا فإنها لاتزال حتى الآن في حالة الانبهار. إن الإعلام المحلي في بلداننا المحبط من تفوق الصور وعلامات الإثارة والإبهار، لا يفعل سوى الاستسلام لهذا التفوق، بل إنه تعبير عن عجزه يسعى للتماهي معه، فيبالغ هو الآخر في تقديم المواد الاستعراضية الخفيفة، أحياناً برداء محلي وأحياناً أخرى بشكل سافر. في إحدى دراساته يقول الدكتور فكتور سحاب إنه ليس من تناقض بين الترفيه والتثقيف إلا حين يبتذل الترفيه، فيهبط إلى درك التهريج، وليست هذه دعوة إلى الصرامة والتزمت، وإلى قصر البرامج التلفزيونية على الجاف والجدي منها، بل إنها دعوة إلى صيغة تجمع الترفيه إلى التثقيف والرقي، وهما ممكنان معاً، وإذا لم يجتمعا فلعجز معدي البرامج الترفيهية لا لتعذر جمعهما. وتدل تجربة بعض البلدان المتقدمة على حرصها على تدريس مواد تتعلق بوسائل الإعلام بهدف وضع التلاميذ على مسافة من تأثير الأجهزة الإعلامية، ففي السويد مثلاً هناك مادة باسم النقد الإعلامي، وفي بلدان أخرى يجري إدماج وسائل الإعلام في العملية التربوية بهدف تعويد الطلبة على التلقي الرشيد للمادة الإعلامية، وتشير الدراسات إلى ان ذلك ساعد على تكوين مسافة نقدية إزاء الإعلان مثلاً لدى الشبان، الذين يعون أهدافه وآثاره عليهم ولا يستسلمون طواعية لدلالاته.
صحيفة الايام
4 يناير 2010