المنشور

تسييس القضايا.. محاولة للفهم!


أصبح المشهد السياسي العام في البحرين مشهدا مركبا متداخل الحلقات وأحد أخطر مؤثراته العامل الطائفي الذي تصاعدت حدته في السنوات الأخيرة، إلى ذلك يذهب استنتاج التقرير الاستراتيجي البحريني في نسخته الثانية والذي صدر عن مركز البحرين للدراسات والبحوث مع احتفالات البلاد مؤخرا بالعيد الوطني وعيد جلوس جلالة الملك.

بحسب التقرير، هناك أكثر من اثنتي عشرة قضية طرحت خلال العام الماضي 2009، تباينت بين حرية الصحافة وقضايا الفساد والقضايا الحقوقية والبطالة والعمل البرلماني وإرهاصات العمالة الوافدة وقانون الأسرة والحوار الوطني والبيئة والتعليم العالي والغلاء والتضخم، وكلها كا نلاحظ قضايا محسوسة بشكل أو بآخر من قبل الجميع وعلى رأسهم من هم في موقع القرار الرسمي على وجه التحديد، أما قضايا الغلاء والأجور والإسكان، والتي لا يمكن للتقرير تجاهلها فهي محسوسة بشكل اكبر من قبل السواد الأعظم من الناس.

المراقب للأوضاع السياسية والاجتماعية في البحرين لا يمكن له أن يغفل أن احد أهم مسببات كل هذا التداخل الذي يتحدث عنه التقرير تبدو غير مبررة، فعندما تتناول القوى السياسية قضايا على درجة كبيرة من الأهمية كقضية الإسكان أو التجنيس أو قضايا الفساد التي تعددت خلال السنوات الأخيرة أو حتى مسالة توزيع الدوائر الانتخابية كما تذهب إلى ذلك مختلف القوى السياسية الحريصة على إيجاد عدالة في مسالة توزيع تلك الدوائر، نجد أن مجمل التعاطي الأهلي يستمر على شكل مناشدات ومطالبات تستمر وتستمر إلى أمد يسمح لها بان تتوالد لتنتج قضية بل قضايا اكبر وربما اعقد كثيرا، خاصة عندما تقبلها رؤى متشنجة تسمح للقضية أي قضية كانت صغيرة أم كبيرة بأن تصبح كرة ثلج تأخذ في التضخم شيئا فشيئا حتى تصبح من الضخامة والتشعب بحيث يصعب التعاطي معها لاحقا لأنها أصبحت متشعبة المعالم والأهداف، لتصبح في متناول أدوات التسييس الذي يتعذر حينها إبعادها عنها، خاصة ونحن نعيش في مجتمع صغير العدد والمساحة.

ذلك ليس تبريرا أو تسويغا لتسييس القضايا ولكنه الواقع شئنا أم أبينا، طالما ارتضينا إهمال لغة العقل والحوار، فالتقرير الذي يؤكد على أن ممارسات القوى السياسية اكتسبت نضجا خلال السنوات السابقة، دون أن يغفل بالطبع ديناميكية وحيوية المجتمع البحريني خلال العشر سنوات الأخيرة، والمفترض أنها كرست نوعا مغايرا من التعاطي مع مختلف قضايانا الوطنية، حيث برزت قوى جديدة وتغيرت أجندات ومواقف واصطفافات سياسية وطائفية ومذهبية بشكل أكثر حضورا عما كانت عليه الأوضاع قبل ذلك، هذا التقرير لم يذكر لنا تحديدا كيف تعاطى الجانب الرسمي مع كل ذلك الحراك وتلك الحيوية، فعندما يضج المجتمع مثلا بقضية كقضية الفساد بما تعنيه من نهب للموارد العامة للدولة، لا يمكن لنا إلا أن نفهم أن عقم التجاوب الرسمي حيالها هو ذاته الذي سمح بتسييس هكذا قضية، لان التعاطي الرسمي في حد ذاته قد جعل من التسييس الأمر الوحيد المتاح بكل تأكيد! كما أنني وددت لو أن التقرير الاستراتيجي تطرق بما يكفي إلى أن هناك قوى سياسية كانت قد قرأت جيدا هذا المشهد المكتنز بالتعقيدات وطرحت فيما طرحت وبوعي ومسئولية رؤى وأفكار لو تم التقاطها وعدم إهمالها لكانت كفيلة بأن تأخذ بأيدي الجميع إلى حيث الاستقرار السياسي والاجتماعي المنشود الذي طريقه الحوار العاقل المتدرج، نعني بذلك ما طالبت به بعض القوى السياسية ولا زالت من ضرورة الجلوس إلى طاولة حوار وطني تستوعب الجميع وتطرح فوقها مختلف القضايا بغية التوصل إلى حلول، وأعتقد جازما أن تلك القوى السياسية تعني جيدا ما تقول وهي على استعداد تام لذلك، لكن قرارا من هذا النوع كثيرا ما يصطدم بعدم تجاوب الجانب الرسمي بكل أسف.

فكم استبشرنا بما سبق أن طرحه منتدى مدريد حول معوقات الإصلاح في البحرين، والذي جاءت حواراته لتعطي مؤشرا حضاريا على قدرة شعب البحرين بمختلف قواه السياسية من رسمية وأهلية على التحاور حول مختلف قضاياه دون تشنج، حدث هذا منذ أكثر من عام ونصف، تلته مبادرات ودعوات للحوار كان أبرزها مبادرة الحوار الوطني التي أطلقها المنبر الديمقراطي التقدمي على خلفية ما شهدته البلاد من احتقانات لازالت آثارها شاخصة للجميع وهي مهمة لن ينجزها إلا ذلك الحوار الوطني المسئول والمتدرج، الذي بإمكانه أن يؤسس لحالة جديدة وايجابية من الحراك الاجتماعي ليبتعد بنا إلى حيث مجتمع المؤسسات القادر على رسم أولوياته وطرائق التعاطي معها من دون أن يسمح لهكذا أوضاع بأن تتداعى أو تتداخل. تقرير آخر ضمن جملة تقارير تتوالى عاما بعد آخر، فيما تظل الكثير من المصاعب والقضايا مؤجلة دون حلول إلى أجل غير معلوم وسط إهمال وجمود لا نفهمه!