على امتداد نحو قرن ونيف منذ الهجرات الأولية للعرب والمسلمين إلى أوروبا وأمريكا لم يشكل وجودهم في البلدان الغربية أزمة في التعايش والاندماج في مجتمعاتها وكفالة حرية ممارسة معتقداتهم الدينية كما شكله تدريجيا خلال الثلاثة العقود الماضية، ويمكن القول ان العرب والمسلمين المهاجرين المقيمين في الغرب حتى بالرغم من تدني نسبتهم السكانية مقارنة بالنسبة التي أضحوا عليها اليوم كانوا يعيشون في وئام تام مع المجتمعات الأوروبية والغربية التي كانت تستضيفهم حتى أوائل ثمانينيات القرن الماضي.
ومنذاك الوقت وعلى امتداد الـ30 عاما اللاحقة أخذت العلاقات بين الطرفين تختلف تدريجيا شيئا فشيئا حتى بلغت أوج تأزمها خلال سنوات العقد الحالي من الألفية الجديدة، وتحديدا منذ ما بات يُعرف بـ “أحداث سبتمبر 2001” التي شهدت ضرب برجي التجارة في نيويورك ومبنى البنتاجون في واشنطون، والتي انطلقت على اثرها الحملة الأمريكية المسعورة الحاقدة التي شنها صقور اليمين الجمهوري الحاكم المتطرف على الإسلام والمسلمين تحت غطاء الحرب على الإرهاب، وأصبح كل مسلم بوجه عام وعربي بوجه خاص مدانا بالجينات لوصمه بالإرهاب حتى يثبت براءته في عُرف الأوساط والقوى اليمينية الأمريكية المتطرفة وفي عرف سائر الأوساط والقوى الغربية والأوروبية اليمينية العنصرية بوجه عام، ووظفت تلك القوى والدوائر كل ما تملكه من ترسانة وسائل إعلام مختلفة لنفث سمومها الحاقدة ضد العرب والإسلام والمسلمين بغية تشويه صورة هؤلاء في عيون الشعوب الأوروبية والغربية عامة.
وكان لممارسات ومسلكيات الأجيال الجديدة من المهاجرين العرب والمسلمين التي تتسم بمظاهر الغلو والتشدد الدينيين في المجتمعات الأوروبية الغربية التي تستضيفهم وعدم تقيدهم واحترامهم لقوانينها دور كبير في مساعدة تلك الحملات اليمينية العنصرية لتبرير هجماتها المسعورة على الإسلام والعرب والمسلمين، وكان أخطرها ما ارتكبته الجماعات الإسلامية المتطرفة من عمليات إرهابية طاولت آلافا من الأبرياء الأوروبيين والأمريكيين، لا أعتقد أننا بحاجة في هذه العجالة إلى التذكير بها وبتواريخها.
ومما لا يخلو من مغزى ودلالة أن الأجيال العربية والإسلامية الجديدة المهاجرة إلى أوروبا التي يتسم سلوك معظم أبنائها بالتزمت والغلو الدينيين بدأت تتوافد الى أوروبا بالضبط بالتزامن مع بدايات صعود المد الإسلامي أوائل الثمانينيات في المجتمعات العربية الإسلامية وانحسار المشاريع الوطنية والقومية، وعلى العكس من ذلك لم تشهد علاقات أجيال المهاجرين العرب والمسلمين المتعاقبة مع المجتمعات الأوروبية والغربية التي احتضنتهم طوال ما يقرب من قرن ونصف القرن منذ أواسط القرن الـ19م حتى الربع الأخير من القرن العشرين.. نقول لم تشهد هذا التأزم والريبة المتبادلة كالتي تشهدها علاقات الأجيال الجديدة من المهاجرين العرب والمسلمين منذ أوائل ثمانينيات القرن الفائت حتى يومنا هذا، والتي بات يدفع ثمنها ليسوا هم وحدهم بل حتى الأجيال المقيمة المهاجرة الأقدم منهم التي عرفت بوسطيتها وتمسكها المستنير المعتدل بثقافتها وتقاليدها الإسلامية وعاداتها الشرقية مما أسهم في نظرة الكثير من الأوروبيين والغربيين الى العرب والمسلمين نظرة ملؤها الإعجاب والمحبة بحضارة العرب والمسلمين وتراثهم وبدينهم الإسلامي الحنيف، هذا الى جانب خلق جو صحي من التسامح والتواد ساعد على استقطاب العديد من فئاتهم في الوقوف مع قضايا العرب والمسلمين المصيرية الراهنة وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.
صحيح أنه مازالت ثمة أوساط وقوى وفئات غربية تنظر الى الإسلام والمسلمين والعرب نظرة تقدير واحترام، وصحيح أيضاً ان هنالك شرائح تعلن اعتناقها الإسلام حتى على الرغم من الجو الموبوء الذي يخيم على العلاقة ما بين الطرفين لكن لنتخيل وضع العرب والمسلمين ومدى قوة علاقتهم مع المجتمعات الغربية التي تحتضنهم وتستضيفهم لو لم يتشكل ذلك المناخ الموبوء، الذي بينا قبل قليل أسباب تشكله، ولم تكن الدوائر الصهيونية الدولية بطبيعة الحال بعيدة عن ممارسة أدوارها الخلفية في استغلال كل ما من شأنه تأزيم وتسميم العلاقة بين الطرفين.
لقد باتت هذه العلاقة على درجة من التأزم بحيث لا يكاد يمر عام من دون ان تتفجر أزمة يكون سببها إساءة متعمدة أو جاهلة للإسلام والمسلمين، تارة على سبيل المثال بإنتاج فيلم هولندي يتضمن هذه الإساءة، وتارة من خلال الإمعان في تشكيل رسوم مسيئة إلى نبي الإسلام محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتارة بالهجوم على مقابر المسلمين ومساجدهم، وأطواراً عديدة بابتداع أشكال عديدة ومتنوعة لاستفزاز وجرح المشاعر الدينية للعرب والمسلمين المقيمين في أوروبا وفي سائر أنحاء العالم.
وكما قلنا فإن الكثير من مظاهر الغلو والتطرف الدينيين التي يصر العديد من المهاجرين العرب والمسلمين الجدد وأبنائهم على ممارستها وخرق قوانين الدول والمجتمعات الأوروبية التي تستضيفهم وتفتح أبوابها لهم والتي لا شأن لها بحرية العقيدة تلعب دورا سلبيا هي الأخرى في تغذية مشاعر الكراهية العنصرية الأوروبية تجاه الجاليات العربية والمسلمة، وهي المشاعر التي تؤججها، كما نعلم، القوى اليمينية العنصرية بالتحالف مع اللوبيات والدوائر العنصرية الصهيونية في تلك البلدان.
لقد غدت العلاقة بين الطرفين من التسمم بما يصح بالفعل ان يطلق على حال فزع الغرب والأوروبيين المرَضي من الإسلام والمسلمين بـ “الإسلام فوبيا”، ولعل آخر حدث بالغ الأهمية ومفيد للعرب والمسلمين لاستخلاص دروسه وعبره الثمينة اذا ما قرِئ جيدا يتمثل في التداعيات وردود الفعل العالمية على نتيجة الاستفتاء الشعبي السويسري بمنع المآذن.
صحيفة اخبار الخليج
30 ديسمبر 2009