طالعتُ، مرةً، كتاباً ينصحنا مؤلفه بالاستخدام الأقصى لطاقات الدماغ العقلية، وفي الكتاب فصل عن القراءة الفعالة أو المجدية. ويقدم المؤلف لقراءه نصيحة بأن تشتمل القراءة على المراحل الأربع التالية: 1ـ المسح، 2ـ التصفح، 3ـ التمحيص، 4ـ المراجعة. في المرحلة الأولى علينا تكوين فكرة عامة حول الموضوع المراد قراءته، بحيث نطالع الفهرس أو المحتويات والصور إن وجدت، وكذلك الرسوم والهوامش والعناوين الفرعية. في مرحلة التصفح علينا الاهتمام بنص الكتاب كالمطالعة السريعة لمقدمات ونهايات الفصول والفقرات، فذلك يمنحنا فرصة لمعرفة ما في الكتاب سلفاً. مرحلة التمحيص تشبه تركيب قطع اللعبة، حيث نبحث خلالها وبعمق عن الأجوبة على التساؤلات التي تشغل أذهاننا، ومن المفيد في هذه المرحلة وضع إشارات أو علامات خفيفة على هوامش المناطق التي نرغب في العودة إليها. أما المرحلة الرابعة والأخيرة فيتعين علينا خلالها التأكد من أن أهدافنا من قراءة الكتاب قد تحققت. على صلةٍ بهذا الموضوع يدعو الدكتور محمد جابر الأنصاري، وهو يحث على «تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها» في الكتاب الذي يحمل هذا العنوان، إلى ثقافة قائمة على الأصول لا على الجزئيات والهوامش، مسجلاً مآخذه على مثقفي وأدباء الموجات الجديدة الذين ينقلون عن المنقول الذي هو بدوره منقول عن منقول، دون أن يعودوا للأصول. ويرى الأنصاري أنه لابد من التعرف على شعراء المعلقات ومعايشة المتنبي والغوص في بحور الجاحظ وهضم امرئ القيس والبحتري وأبي تمام وأحمد شوقي وجبران، وما يقال عن الأدب العربي يمكن أن يقال أيضاً عن الثقافة والفكر الإنسانيين، حين يتعين على القارئ الجاد الذهاب إلى مكتبة الحضارة الإنسانية ليقرأ قبل كل شيء «جمهورية أفلاطون» و»منقد» الغزالي و»مقدمة ابن خلدون» و»منهج» ديكارت وديالكتيك هيغل و»دراسة» توينبي في التاريخ؟ الأصول هي سقراط وأفلاطون وأرسطو بالنسبة للفلسفة الإغريقية، والأصول هي الفارابي وابن سينا وابن رشد وابن خلدون بالنسبة للفلسفة الإسلامية، والأصول هي ديكارت وكانط وهيغل وماركس ونيتشه بالنسبة للفلسفة الحديثة، والأصول هي المتنبي والمعري وشكسبير وطاغور بالنسبة للأدب العالمي. ورغم تناسل وتناسخ الدوريات العربية، فان قلة منها تسعى لأن تكون مختلفة وذات رؤية، فرغم أن طبيعة هذه المجلات بسبب تتابعها تجعلها أكثر مقدرة على التأثير في وعي الجمهور، إلا أن الكثير منها باتت أشباه بالوعاء أو الكشكول الذي يجمع ما هب ودب من المعالجات السطحية التي تفتقد المنهج والرؤية، والتي تجعل من الدورية فاقدة للناظم المعرفي الذي يضبط وجهتها. يذكرنا الأنصاري بأنه عندما ترجم العرب أفلاطون وأرسطو خرج من بينهم الفارابي وابن سينا وابن خلدون، وعندما ترجم الأوروبيون، في مطلع نهضتهم الحديثة، ابن سينا ومعه أرسطو خرج من بينهم ديكارت وكانط وأمثالهما من القمم الفكرية، وعندما ترجم العرب، في مطلع عصرهم الحديث، ديكارت وشيئاً من كانط وهيغل وعادوا إلى ابن سينا وابن خلدون خرج من بينهم محمد عبده وشبلي شميل ولطفي السيد وطه حسين وميخائيل نعيمة، من رواد التفكير الذي مجد العقل ونبذ الخزعبلات والأوهام. الفكرة كلها تكمن في هضم الأصول وإعادة استيعابها، لا في الجري وراء المنقول والعابر والطارئ.
صحيفة الايام
29 ديسمبر 2009