لا يفهم ولن يفهم بتلك السهولة الزائر الجديد والعابر الغريب تفاصيل التفاصيل، وماذا يعني لشعب دولة الإمارات العربية المتحدة عيد استقلاله وعيد الاتحاد الثامن والثلاثين، حيث عرفت تلك الإمارات السابع تحديات كثيرة وواجهت صعوبات عدة لكي تؤسس لمشروع وحدوي عربي ولو جزئيا في المنطقة العربية، التي عاشت بحلم الوحدة ومرت بتجارب فاشلة للوحدة، بعضها كانت مشاريع وحدة ثنائية وبعضها مشاريع وحدة ثلاثية، غير إنها جميعا أخفقت إخفاقا كبيرا تركت أثارها السلبية كالجرح الغائر العميق لدى أجيال لاحقة وجيل عاش حكايات الإخفاق وانتكاسات الأحلام . في الذكرى الثامنة والثلاثين لدولة الاتحاد، استطيع أن أقول إنني عاصرت كل تلك المرحلة بتفاصيلها ودقائقها، مشاعرها وطموحاتها وتحدياتها العضال، عشتها عن قرب عندما لامست قدماي لأول مرة ارض ابوظبي في العام 1968، حيث بإمكان المرء أن يلمس حقيقة هذه التجربة الكبيرة إن لم اسمح لنفسي بان أقول أنها عظيمة لكونها صنعت إنسانا جديدا ومواطنا جديدا، له خصوصيته الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، ومن هنا بإمكاننا أن نقول إنها مشروعا كبيرا في حقيقته وواقعا اكبر من حيث النتائج والوقائع التي تركتها لنا العقود الأربعة، من انجازات تنموية عظيمة، حيث بات الإنسان الإماراتي والدولة الفتية الإماراتية عنوانا وموضوعا يتناوله بالدرس كل من يرغب في معرفة مدى التطور السريع والمنجز الحضاري لتنمية سريعة حققت إبهارا ودهشة لكل دول العالم، فما بناه المؤسسين الأوائل من تقدم حياتي ودولة رفاه اجتماعي، في فترة قياسية، لم تحققه دول في العالم النامي، كعواصم وحواضر وريف ممتد، كانت أقدم بكثير من إمارات صغيرة معزولة تعيش على ضفاف الخليج العربي، إمارات صغيرة تابعة للاستعمار البريطاني وقبائل متناثرة مشتتة، تقاوم البيئة القاسية والمحيط المجحف بثروته، لو لا تلك المياه والبحر والصحراء وواحات النخيل، التي علمت الإنسان كيف يتعايش مع بيئة قاسية إلى ابعد حدود القسوة، وكأنما غواص الأمس هو عامل المناجم اليوم، فكلاهما كان يغوص تحت الأعماق لاستخراج مكنونها من اللؤلؤ والذهب والألماس . كان على إنسان تلك الإمارات القابعة على ضفاف الخليج استخراج ما يمكن استخراجه من تلك البيئة التي اختزنت في عمقها ثروة هائلة من النفط، والذي ستتمحور حوله كل الاقتصاديات اللاحقة وكل مشاريع التنمية المتنوعة كان أهمها هو بناء الإنسان كمحور التنمية وهو الهدف المستمر لمشروع الاتحاد، فقد وضعت الدولة الفتية في عقدها الأول أهم المرتكزات كخطوات أولى، تم استكمالها لاحقا بخطوات عديدة تطلبتها المراحل المختلفة في كل عقد غير إن الخيط الأساسي في كل العقود كان هو الإنسان والتنمية، لكي يصبح مشروع الوحدة والاتحاد ركيزة للمستقبل، بناء مواطن تخطى كل الحساسيات التاريخي، والشكوك بجدوى نجاح التجربة ومخاضها الأول مع فرسان التأسيس، دون أن ينسى الجميع حجم ونوعية ودور كل إمارة في ذلك الكيان السياسي الجديد . كنا نلامس حينها كيف تبلورت الفكرة قبل الاستقلال وراودت رؤوس قادتها أهمية توحيد تلك الإمارات السبع المقبلة على التغيير والاستقلال من اجل بناء دول حديثة، تنتظرها الأيام وجيلها بتطلع وحلم كبير . وحسب تعبير جيل إمارتي عاش وولد مع هذا المخاض التاريخي، فان أول ما لمسه كيف تنطلق التجربة دون أن تفرط بخيط هام هو بناء الثقة بين الأطراف جميعها وتصفية القلوب، باسترضاء شخصيات ومجموعات، عشائر وقبائل وعائلات، كانت مسكونة بهواجسها، ولكنها في النهاية عادت لتذوب في المشروع الحلم، وتنطلق من اجل الهدف الأسمى وهو بناء دولة عصرية قوية يضمها الاتحاد، دولة رسمت لمستقبلها بكل وضوح، دون أن تنسى إن هناك معوقات عدة لا بد من إزالتها لتحرير الجيل القادم من أوهام وفكرة الانعزال والتقوقع الداخلي . كان العقد الأول منصبا في وضع أهم بنية للتعليم كأساس لبناء إنسان الإمارات، فمن خلال تلك البنية التعليمية بإمكانها أن تضمن عملية التنمية، فالعلم والتعليم ليس مجرد تفكيك المفردات في اللغة والقضاء على الأمية والتخلف وإنما على المدى البعيد هو استثمار في المواطن الإماراتي لكي يضمن المجتمع وتضمن التنمية إنتاجا جديدا وقوة عاملة ومنتجة لمرحلة ما بعد النفط. في العقد الأول بدأت ملامح المجتمع في التغيير، حيث شهدت دولة الاتحاد نهضة عمرانية وبنية تحتية في حالة ازدهار مستمر، فجاءت الولادات النهضوية المتلاحقة، جرائد تنتشر ومحطات تلفازية وإذاعية ومراكز تهتم بتأسيس حقيقي للبنية التحتية . تلك العملية الكثيفة في أصوات الجرافات والبناء والتغيير في كل إمارة، جذبت أول ما جذبت مع الاتحاد كل مواطني الإمارات السبع المنتشرين في ربوع بلدان الخليج والدارسين في البلدان العربية ، فكان عليهم تقع مسؤولية العبء الأول والحمل الثقيل في بناء دولة الاتحاد .
صحيفة الايام
27 ديسمبر 2009