المنشور

زهو الطواويس!

المثقف الذي نحتاجه اليوم هو ذاك الذي يفي بشروط أو صفات “الانتلجنسيا” الحديثة، أي ذاك المثقف الأقرب إلى مفهوم المثقف العضوي الذي صاغه غرامشي، ومثل هذا النوع من المثقف يجب أن يتوافر على عدة شروط، بينها استقلاليته النسبية عن البنى والولاءات التقليدية، وروحه النقدية أو حاسته الانتقادية إزاء الأوضاع المحيطة به، وامتلاكه لنزعة إنسانية تحررية تجعله قادراً على إظهار حساسية مختلفة إزاء حاجات الناس، وأخيراً جمعه بين التنظير وبين الفعل الاجتماعي. وهذه الصفات هي ذاتها تلك السائدة عن صورة المثقف في العصر الحديث، وبهذا المعنى فإن المثقف لا يمكن أن يكون جديراً بهذا الاسم إذا كان فاقداً للعدة النظرية – الفلسفية، أو الرؤية الخاصة للحياة، التي تميزه عن تقني الثقافة، أي ذاك المتعلم المنصرف لشؤون مهنته وحياته فقط مُديراً ظهره لما حوله من حراك اجتماعي – سياسي ومن قضايا ينشغل بها المجتمع الذي ينتسب اليه. فليس كافياً أن يكون الإنسان مطلعاً أو ناقلاً للمعرفة بصورة حيادية مجردة، إنما يجب أن يكون هو نفسه حَكماً على أحداث مجتمعه. إن دوره، حسب تعبير للدكتور خلدون النقيب، لا ينحصر في تقديم المعرفة وتطويرها فقط، وإنما يصبح قادراُ بفكره أن ينازل الرؤى الفاسدة أو الزائفة، في سعيه لبث قيم جديدة، فلا يقف عند حدود الملامسة السطحية للظواهر، وإنما يُوغل فيها مبضع النقد، الذي يشبه مبضع الجراح الذي يستأصل الورم، حتى لو سبب ذلك آلاماً مبرحة لمريضه. وفق هذا القياس فإن الوظيفة الأساسية للثقافة ليست محصورة في الخلق والإبداع فحسب، وإنما أيضاً في وظيفة الضبط الاجتماعي التي يمارسها المثقف من خلال إنتاجه للوعي النقدي، للوعي الجديد الذي لا يهادن إزاء الظواهر المعيقة للنهضة والتقدم، والمؤسس لقيم معرفية جديدة، والمؤصل لها في إطار السعي لمواجهة ما لمجتمعاتنا بصدده من استحقاقات في المرحلة الراهنة والمرحلة القادمة. وما يعيب الفعل الثقافي الجديد هو تشتته وبالتالي عجزه عن أن يشكل حالة عامة مؤثرة نظراً لانعدام التواصل الأقرب إلى القطيعة وهيمنة الأشكال البيروقراطية من التواصل التي غالباً ما تكون بعيدة عن النبض الثقافي الحقيقي في هذه المجتمعات، والذي يجد تعبيراته في ظواهر أو بؤر ثقافية صغيرة لم تنل بعد ما هي جديرة به من اهتمام وعناية، وتتداخل هذه الظواهر الثقافية، أو يجب أن تتداخل مع أسئلة الثقافة العربية في الظروف المستجدة. سيظل هناك أمر ناقصا في مفهوم المثقف إذا لم ينخرط هذا المثقف أو من يريد أن يصنفه الناس على انه كذلك في مجرى الحياة ويشتبك بأسئلتها ويكتوي بلهب قضاياها المعقدة التي تزداد تعقيدا كل يوم، بحيث تبدو اللهجة الاوامرية التي يطلقها البعض من هنا وهناك، من عليائهم، عما يجب أو ما لا يجب فعله مظهراً من مظاهر الاستعلاء على الحياة نفسها، وليس فقط على الناس الذين يعملون في حدود ما يستطيعون ، حين يُظهر هؤلاء المتفرجون أنفسهم كمن اكتشفوا البارود أو ربما ما هو أهم منه، فلا تعدو مهمتهم سوى كيل النصائح لا بل والشتائم وتعابير الازدراء المغلفة بزهو الطواويس، الذي نعرف مقدار زيفه.
 
صحيفة الايام
24 ديسمبر 2009