الرئيس أوباما يشد الرحال إلى الصين ودول أخرى في القارة الآسيوية ضمن جولة آسيوية استغرقت أسبوعاً، من أجل إقناع القادة الصينيين والدول الأخرى التي زارها بمساعدة بلاده على معالجة أزمة عجوزات ميزانها التجاري، الصين برفع قيمة عملتها الوطنية (Currency Appreciation) وكوريا الجنوبية واليابان وسنغافورة من أجل تعظيم حصة الاستهلاك المحلي في إجمالي نواتجهم المحلية على حساب قطاعاتهم التصديرية، إضافة طبعاً إلى الطلب من هذه الدول لا سيما الصين وسنغافورة بالموافقة على أخذ التزامات بالتخفيف من انبعاثات الغازات الدفيئة أسوة بالدول المتقدمة لتسهيل إبرام اتفاق جديد في مجال التغير المناخي في مؤتمر الأطراف الخامس عشر الذي سيُعقد الشهر المقبل في كوبنهاجن. العملة الوطنية لأي بلد هي الوجه الآخر، المعادل افتراضاً من الناحية الاقتصادية، للسلع المنظورة والسلع غير المنظورة (Visible and invisible goods) المنتَجة محلياً، من هنا تأتي إحدى أهم وظائف النقد الخمس وهي وظيفته كمقياس للقيمة. وبهذا المعنى فإن النقد (أو العملة الوطنية) هو عنوان الاقتصاد وهو المرآة العاكسة لأدائه ومتانته من عدمها. واليوم فإننا لو أنزلنا هذه المعادلة على الحالة الأمريكية سوف نجد أن العملة الأمريكية (الدولار) تنزف بغزارة وتفقد جزءاً من رصيد قوتها كلما تقدم بها العمر جراء تقادم النموذج الاقتصادي الأمريكي وإصابته بأعطاب وأعطال بالغة الأثر. ففي أقل من عام فقد الدولار 5,11٪ من قيمته وذلك بعد أن كان عاد إلى السطح بأعجوبة مقاوماً أمواج أعتى أزمة اقتصادية يتعرض إليها الاقتصاد الأمريكي منذ ثلاثينيات القرن الماضي. وهو ما دفع كلاً من الصين وروسيا اللتين تملكان أرصدة دولارية ضخمة للحديث عن إمكانية الابتعاد عن الدولار، بينما سارعت الهند لتغيير سلة احتياطياتها بتقليص محتواها الدولاري وشراء 200 طن من الذهب من صندوق النقد الدولي. يقول بعض أركان النظام الاقتصادي العالمي إن الدور المميز الذي تضطلع به الولايات المتحدة كمُصدِر وحيد لعملة الاحتياط العالمية (الدولار) يوفر لها ميزة غير عادلة، إذ يمنحها قدرة فريدة على الاقتراض من الدول الأجنبية بعملتها الوطنية، فهي تربح عندما تنخفض قيمة الدولار نتيجة لكون أصولها (Assets) في الغالب بالعملة الأجنبية فيما خصومها (Liabilities) بالدولار الأمريكي. وفي التحليل النهائي فإن الولايات المتحدة تتمتع بصافي رأسمال قدره حوالي تريليون دولار من الانخفاض التدريبي للدولار على مدى السنوات ما قبل الأزمة المالية/الاقتصادية الأخيرة. وبهذا المعنى فإن مصير العالم أصبح معلقاً على مدى قدرة الولايات المتحدة على المحافظة على قيمة الدولار. ولكن هذا كان الحال دائماً ومنذ أن وافق العالم على مركزية الدولار في النظام النقدي العالمي الذي أنشأته اتفاقية بريتون وودز لعام ,1944 وهو وضع تكرس للدولار عبر الزمن، منذ ذلك الوقت، قبولاً عالمياً لهذا الدولار حتى بعد الذي حصل للدولار بعد فك ارتباطه بالذهب مطلع سبعينيات القرن الماضي، وذلك بدليل أن العالم هو من أسهم في تكريس هذا الدور المتميز للدولار، فلقد اختارت الصين وكافة بلدان الاقتصادات الصاعدة مراكمة احتياطياتها بالدولار الأمريكي تحت إغراء الوضع المتميز للدولار كعملة دفع عالمية، إضافة إلى عمق أسواق المال الأمريكية وانفتاح سوق رأسمالها. ولذلك فإن الحديث عن استبدال الدولار بعملة احتياطية أخرى من شأنه الإضرار بالدول المذكورة عاليه التي راكمت احتياطات ضخمة بالدولار وهو الأمر الذي يدفع لمواصلة الطلب على الأصول الأمريكية وبالتالي تأجيل الحديث عن إعادة التوازن المالي بين البلدان المعنية بتداول الدولار. ولكن ما هي بدائل الدولار المطروحة حالياً في سوق المزايدات الدولية؟ هنالك ثلاثة خيارات تتمثل فيما يلي: (1) إنشاء نظام نقدي متعدد العملات المتنافسة تشمل إلى جانب الدولار اليورو الأوروبي واليوان الصيني (بعد جعله عملة قابلة للتحويل (Convertible). (2)اعتمـاد أوسـع نطـاقـاً لعملـــة حقـــوق السـحب الخاصـة (Special Drawing Rights – SDR) الصادرة منتصف سبعينيات القرن الماضي (على إثر أزمة الدولار) من صندوق النقد الدولي، باعتبار أن محتواها يستند إلى العملات العالمية الرئيسية: الدولار، اليورو، الجنيه الإسترليني والين الياباني بما يجعلها تستفيد من كل مزايا هذه العملات. (3) الخيار الراديكالي وهو إنشاء عملة عالمية جديدة يتم اعتمادها أداةً أساسية للمعاملات النقدية العالمية وتعويمها جنباً إلى جنب مع العملات الوطنية. أما جهة إصدار مثل هذه العملة فيجب أن تكون مؤسسة نقدية عالمية جديدة غير مرتبطة بأية اقتصادات من تلك التي تعاني منها الدول، بحيث تقوم هذه العملة بدور الأصل العالمي الخالي من المخاطر (Risk-free global asset)، حسبما يرى صندوق النقد الدولي. ولكن هنالك تحفظات على هذه الخيارات. فيما يتعلق بالخيار الأول فإنه يتطلب تنسيقاً محكماً ودقيقاً بين الدول صاحبة عملات التداول العالمية المعتمدة. وإذا كانت الولايات المتحدة تتمتع الآن بمفردها بميزة إصدار العملة الاحتياطية العالمية الرئيسية (الدولار) فإن هذه الميزة ستذهب إلى الدول المختارة لاعتماد عملاتها كعملات احتياط رئيسية. وبالنسبة لعملة حقوق السحب الخاصة (SDR) فإن صندوق النقد نفسه الذي يشرف على عملية تداولها (وإصدارها) يشكك في إمكانية استخدامها على نطاق أوسع مما هي عليه اليوم ما لم يحدث انهيار تام في النظام النقدي العالمي الحالي. وأما بالنسبة لخيار إنشاء عملة عالمية جديدة الذي يعيد إلى الأذهان اقتراح الاقتصادي البريطاني الشهير جون مينارد كينز بإنشاء بنك عالمي للمقاصة المالية (International Clearing Union) يقوم بإصدار عملة (أسماها هو Bancor) تُسدد بواسطتها كافة المعاملات المالية والتجارية، فإنه وبما أن مثل هذا البنك غير قائم في الوقت الحاضر فلا خيار أمام الجميع سوى التعامل مع النظام النقدي الحالي بما يشمل ذلك التعايش مع القلق السائد حالياً بشأن وضع العملة الأمريكية إلى أن تنضج فكرة أحد الخيارات المطروحة. وإلى أن يحدث ذلك سوف يبقى الدولار متفوقاً على اليورو في الحصة من الاحتياطيات العالمية بمقدار ثلاثة أضعاف تقريباً وسيبقى أيضاً عملة التسعير الأولى للسلع والخدمات.
صحيفة الوطن
21 ديسمبر 2009