لم يكن هناك بوسع عالم الفيزياء أو الكيمياء أن يجري الاختبارات العديدة، المتكررة، في المختبر للتحقق من النتائج العلمية التي بلغها، فلا تعدو «حقيقة» متداولة إلا بعد فحصٍ متأنٍ، فيما الباحث في العلوم الاجتماعية يشتغل في فضاءات اجتماعية ومعرفية معقدة تجعله عرضة للخطأ أكثر من عالم الطبيعة، لأنه لا سبيل سريعاً لاختبار خلاصاته أو التحقق من مدة صحتها. الاختبار والتجربة أمران غير ممكنين في الدراسة التاريخية، فكل واقعة من وقائع التاريخ المسلم بها قائمة بذاتها، وليس في الإمكان تصور ظروف يتكرر فيها وقوعها حتى يمكن الجزم بصحة ما قيل من استنتاج حولها، لذا يبدو طبيعياً ألا يتفق المؤرخون على ما هو مهم وما هو ليس كذلك. ويبدو أن الحاجة الدائمة التي لا تنتهي لإعادة التأويل، حيث لا منجز نهائياً في هذا المجال، حين تصبح جميع الأحكام خاضعة لإعادة الفحص والتدقيق هي ما يفسر ما ذهب إليه ابن خلدون في «المقدمة» من «إن التاريخ في ظاهره لا يزيد على أخبار سياسية عن الدول والسوابق من القرون الأُول، تنمو في الأقوال وتضرب فيها الأمثال، إلا أنه في باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل، في الحكمة عريق، وجديد بأن يُعد في علومها وخليق». لذا يظل التاريخ بحاجة دائمة لإعادة قراءة، وبالتالي لإعادة كتابة، وفي عبارة أخرى لإعادة تأويل. ربما لا يدور الخلاف حول أن هذه الواقعة التاريخية تمت أو لم تتم، وإنما يدور في درجة أساسية حول الملابسات التي أحاطت بهذه الواقعة، يذكرنا ذلك بالفارق الجوهري بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية، ومن ضمن هذه الأخيرة التاريخ. كثيراً ما تردد المقولة التي لا أعرف لمن تنتسب من «أن التاريخ لم يقع، والمؤرخ لم يكن هناك». لكن أياً كان الأمر فإن التاريخ قد وقع، لكن المؤرخ فعلاً لم يكن هناك، لم يكن موجوداً وقت الحادثة، إنه أشبه برجل المرور الذي أتى متأخراً للتحقيق في حادثة مرورية بعد أن تم كل شيء، وأعد روايته لما حدث نقلاً عن الشهود، والشهود ليسوا مجردين من الأهواء، ثم إن محضر التحقيق تضمن في خلاصته ما ظنه المحقق صحيحاً، أي ما اقتنع به هو من شهادة هذا الشاهد، لا ذاك، وليس بوسع أحد أن يجزم، في صورة مطلقة إن هذه الشهادة بالذات هي الحقيقة الناجزة. وهو أمر يدفعنا للاستنتاج بأن التاريخ العام هو مجموعة تواريخ، ليس منفصلة عن سياقٍ عام يجمعها، ولكنها تنطوي على مقدارٍ كبير من الاستقلالية، وأدى إهمال هذه الاستقلالية إلى النظر بدونية إلى التواريخ الخاصة أو المستقلة، من ذلك مثلاً التاريخ الثقافي أو تاريخ النساء أو تاريخ الفئات المهمشة وغيرها الكثير. ما أولى عناية كبرى عند كتابة التاريخ كانت الأحداث الفاصلة كالحروب والغزوات، وأغفلت العناصر الأخرى التي توارت خلف هذه الأحداث، ليس فقط بوصفها عناصر تراكمت حتى أدت إلى هذه الأحداث، وإنما أيضاً بصفتها سياقاً مستقلاً له سيرورته الخاصة به التي ظلت مستمرة على هامش التطورات الحاسمة.
صحيفة الايام
17 ديسمبر 2009