في شبابنا الباكر ونحن لم نزل على مقاعد مدرجات جامعة القاهرة أتذكر كم كنا نولي اهتماما فائقا وحماسة منقطعة النظير بالبحوث العلمية السياسية التي نكلف بها من قبل أساتذتنا في المواد السياسية والاقتصادية المقررة كجزء من متطلبات انجاز المناهج والمقررات الدراسية، ولشدة اعتنائنا واعتزازنا بتلك البحوث المنجزة لطالما تقنا الى استعادتها من الدكاترة خاصة انه في ذلك الوقت لم تظهر آلة الحاسوب الطابعة والحافظة للمادة المطبوعة، كما لم تظهر بعد الآلة الناسخة.
لكن ثمة عرف عرفناه فيما بعد بأن البحوث والدراسات التي تسلم إلى الاساتذة الجامعيين لا تعاد إلى الطلبة ولا تسترد لأسباب مجهولة، وإن كان الشائع بين زملائنا الطلبة المصريين ان الكثير من هذه الابحاث يستفيد منها الدكاترة أنفسهم في مجال دراساتهم وبحوثهم الخاصة.
ومازلت شخصيا، وعلى الرغم من طراوة تجربتي البحثية والكتابية وأنا في تلك السن الغضة أتوق بشدة إلى استرداد بحوثي ودراساتي المقدمة الى أساتذتي الجامعيين بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، فعلى الرغم من حداثة التجربة البحثية وعدم اكتمال نضجها فإن أبحاث ودراسات تلك المرحلة العمرية يبقى لها مدلولها ورمزيتها الجديرة باعتزاز صاحبها والاحتفاظ بها ضمن أوراق ذكرياته الحميمة.
لا أعرف كيف تذكرت هذا الهاجس من هواجس تجربتي الكتابية والبحثية وانا أقرأ تقريرا صحفيا مفصلا حول أوضاع المثقفين والباحثين الفرنسيين الذين ما فتئت تعصف بهم طاحونة الفقر والعوز بفعل البطالة وتدني الاجور في بلد يعد من أعرق بلدان العالم، إن لم يكن اعرقها، في الثقافة والفكر والبحث العلمي. إذ يشير التقرير إلى ان 70% من الدراسات المنشورة في كبريات المجلات العلمية هي من انجازات طلبة يعملون في المختبرات في اطار التحضير لشهادات عليا، ولكن وعلى الرغم من نبوغهم العلمي وتفوقهم فإنهم ينتظرون ما لا يقل عن خمس سنوات لعلهم يجدون وظيفة، ويتم خلال هذه السنوات الاتجار مجانيا باستغلال مهاراتهم العلمية في مختبرات ومهن مختلفة قبل تقلد الوظيفة التي احرقهم جمر انتظارها طويلا.
ان 50% من الاشخاص العاطلين عن العمل في فرنسا هم من ذوي الشهادات العلمية والفنية ومعظمهم من المهرة في استخدام أجهزة الحاسوب والالمام بأحدث البرامج المعلوماتية والدائبين على حضور المنتديات الثقافية والعلمية في الوقت الذي يعجزون عن دفع ايجار منازلهم وملء ثلاجاتهم وبعضهم محروم من التأمين ضد التعطل ومن التأمين الصحي.
ومثلما يحدث في سوق العمل العربية حيث فئة الخريجين من الاطباء والمهندسين وخبراء الكمبيوتر وموظفي البنوك وذوي المهن التقنية هي اقل الفئات معاناة من البطالة كذلك الحال في فرنسا في حين ان الباحثين والمدرسين والفنانين التشكيليين والناشرين والصحفيين والروائيين وكتاب السيناريوهات وسائر خريجي الفروع الادبية الاخرى والانسانيات، كالتاريخ والفلسفة، وعلم الاجتماع تظل تلاحقهم لعنة البطالة وتمتهن كرامتهم وتسحقها سحقا كأن الحضارة البشرية ونهضة الدول تقومان من دون الحاجة الى مثل هذه التخصصات التي ينظر اليها كتخصصات ترفية عبثية لا لزوم لها.
ان الجامعات الفرنسية تؤهل وتخرج سنويا عشرة آلاف باحث لا يجد وظيفة منهم سوى .2500 ومهنة الصحافة التي لطالما راودت وداعبت احلام الشباب المغرمين بها فإن ما لا يقل عن 20% من اصحاب هذه المهنة يعيشون بأقل من 700 يورو شهريا مما يضطر بعضهم إلى اللجوء الى مهن اخرى كالتصحيح اللغوي او تقنيات التحرير او الترجمة او حتى الدروس الخصوصية او يطلبون منح البطالة لتغطية النزر اليسير من مصاريفهم المعيشية، كما يلجأ بعضهم الى الكتابة في اكثر من صحيفة، وهو لربما يعد محسودا من قبل الكتاب والصحفيين العرب الذين يتعرض العديد منهم لأبشع انواع الاحتكار والاستغلال في الصحافة العربية فلا هي تقدر مواهبهم وعطاءاتهم حق قدرها، ولا هي تسمح لهم بايجاد مصادر دخل كتابية اخرى.
ويعبر عن هذه الحقيقة المرة عالم الاجتماع الفرنسي ألان اكاردو قائلا: “عامة الناس لا ترى من الصحافة سوى وجهها البراق، لكنهم يجهلون اساطين ورؤساء تحرير وملاك الصحف الذين يستغلون عمل الشباب ابشع استغلال بإقحامهم في تغطيات صحفية تافهة فارغة تزوق بعناوين جذابة مثيرة ترضي نزوات شخصيات سياسية في حب الاضواء والبروز الاعلامي”.
فإذا كان هذا هو حال جيل الشباب من الصحفيين في فرنسا على نحو ما بينه اكاردو فماذا يقول لو عاين الواقع المأساوي الكارثي الذي يرزح في ظله آلاف الصحفيين في الدول العربية منذ عشرات السنين وحيث ينكب بهذا الوضع الاستغلالي ليس جيل الشباب فقط بل حتى جيل الكهول وممن لا يشفع لهم حتى من بلغوا من العمر عتيا؟
والأسوأ من ذلك فإنه إذا كان يحق للصحفي ان يدافع عن حقوق ومظلوميات كل فئات المجتمع وان يعري الفساد في أي مكان، هذا ان تمكن في عالمنا العربي من ذلك غمزا أو لمزا، فإنه محروم ومحظور عليه ان يتظلم من واقعه المهني المرير او يومئ مجرد ايماء الى الفساد والتمييز اللذين ينخران مؤسسته الصحفية ويطاولانه.
وإذ يشير معد التقرير عن حق الى أن شريحة المثقفين لا تكاد تختلف عن حال شرائح العمال والطبقات الفقيرة من حيث تعرضها للاستغلال سوى ان هذه بعملها البدني وتلك بعملها الذهني “النظيف”، ان في الاجور المتدنية وان في ساعات العمل الطويلة أو الاضافية غير المدفوعة، فانه يصيب كبد الحقيقة بارجاع تفسير منطق هذه الظاهرة الى طبيعة قانون اقتصاد السوق الرأسمالي الذي جعل العمل الثقافي سلعة كالعمل البدني المأجور والذي لا يتوانى رب العمل الثقافي والاعلامي عن تسريح وقذف آلاف الكتاب والمثقفين الى الشارع مثلهم مثل سائر العمال إذا ما استدعت مصالحه ذلك.
صحيفة اخبار الخليج
16 ديسمبر 2009