لا ينقص بلد مثل اليابان كبار الكتاب والفنانين والمهندسين المعماريين أو مصممي الرقص والسينمائيين، مع ذلك فانهم غير معروفين في الخارج، ولا تمارس القلة منهم المشهورة عالمياً الا تأثيراً ضئيلاً. هذه الملاحظة كانت موضع وقفة من المفكر اللافت “الفين توفلر”، فحظت بمناقشة في كتابه: “تحول السلطة”، حين رأى أن الصادرات الثقافية تمثل أكبر نقاط ضعف اليابان، رغم أن الشعب الياباني أكبر قارئ للصحف في العالم، والأكثر اهتماماً بمعرفة سلوكيات الآخرين، والأكثر نهماً لرحلات السفر. اليابان، ولموازنة نفوذها في العالم، شنت هجوماً ثقافياً واسع المدى بدءاً من المجالات ذات الأهمية الاقتصادية المباشرة مثل الموضة والتصميم الصناعي، مروراً بالفنون الأكثر شعبية كالتلفزيون والسينما والموسيقا والرقص، وكذلك الأدب والفنون الجميلة، الا أن هذا الهجوم مازال يواجه عقبات. من بين أهم الأسباب لتعذر انتشار الأفكار والثقافة اليابانية، حسب توفلر، سبب اللغة، التي هي عائق ضخم، وفي هذا السياق يشار الى أن بعض النخب المثقفة اليابانية ذات النزعة القومية تتحدث عن عنصر روحاني تنطوي عليه اللغة اليابانية تجعل من المستحيل ترجمته ونقله إلى اللغات الأخرى، وهذا العنصر يضفي، برأيهم، نوعاً من الفرادة على اللغة اليابانية. لكننا نحسب أن كل اللغات وكل الثقافات تنطوي على فرادةٍ من نوعٍ ما، وأن الأمر لا يتصل بالثقافة اليابانية وحدها، لكن يبقى أن ملاحظة توفلر تسترعي الانتباه، لأن الأمر هنا يتعلق بقوة حضارية ذات نفوذ اقتصادي عالمي نلمس تجلياته في كل مكان، وكان هذا النفوذ ومايزال موضع صراع مع قوى اقتصادية عملاقة في مقدمتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وغالباً ما يقترن النفوذ الاقتصادي الجبار كذاك الذي تتمتع به اليابان، بنوع من النفوذ الاقتصادي الذي يخترق الحدود، فالسلعة حين تعبر الحدود لا تعبر وحدها، مجردة أو محايدة، وانما تعبر محملة بقيمٍ وأفكار ذات طابع ثقافي، وهي تروج لها من حيث أرادت إن لم ترد. ويمكن في هذا الصدد أن نسوق أسباباً مختلفة خاصة باليابان التي عانت طويلاً من عزلة دامت ثلاثة قرون، ولم تبدأ في كسر طوق العزلة هذا الا مع ثورة عصر “الميجي”، للتعويض عن آثار تلك العزلة، الا ان اشارة توفلر الى موضوع اللغة تظل اشارة شديدة النباهة، شأنها في ذلك شأن بقية اطروحاته وملاحظاته العميقة في مؤلفاته. تحيلنا هذه الملاحظة الى موضوع هيمنة اللغة الانجليزية بوصفها لغة كونية تشق طريقها الى غرف الدراسة بدءا من الروضة وانتهاء بالجامعة وما بعدها، عدا عن هيمنتها على المعاملات التجارية والاستثمارية والمصرفية، فضلاً عن الثقافة والفنون. ان “الهيمنة” الأمريكية على العالم ليست آتية فقط من التفوق الاقتصادي أو الجبروت العسكري أو من النفوذ السياسي الذي تكرس بسقوط الثنائية القطبية في العلاقات الدولية، انما هي آتية أيضاً من هيمنة اللغة، التي هي أكثر تعبيراتها بداهة وشيوعا، وعاء للتفكير، وحين يفكر المرء بلغة بعينها فان الأمر يتصل بنسق تفكيره وحتى نظام سلوكه. لن يمكن التمعن في ظاهرة العولمة بمعزل عن هذا السياق اللغوي.
صحيفة الايام
15 ديسمبر 2009