ليست المشكلة في الاثني عشرية وليست في الشعب الإيراني، المشكلة في الحرس الثوري الذي يريد “الثورة” في زمن إيران لم تعد فيها ثورةٌ إلا ضده.
الذين يريدون حرفَ المشكلة إلى الشيعة، فإنهم يسكبون مزيداً من الزيت على النار، الإيرانيون ونحن والعالم بأسره مشكلتنا هي مع قيادة الحرس الثوري غير المتبصرة، وغير الحكيمة.
بل لنقل ان بعض رجال الدين الشيعة الكبار اتخذوا مواقف تجاوزوا فيها رجال الدين من المذاهب الأخرى.
حتى قيادة الإمام الخميني كانت تجري في ظرفٍ مغاير عن الآن، كانت فيه ولاية الفقيه مُبررة بعض الشيء في ذلك السياق المؤقت، حيث استولى على إيران نظامٌ قمعي دموي فاسد، لم يعطِ أي مجال لنمو خيارات دينية و”نهضوية” ويسارية عقلانية سلمية وديمقراطية، وشكل قوة سافاك بمئات الآلاف من البشر، اتخذت أساليب تصفيات دموية مروعة يومية.
قادت مجازرُ السافاك إلى أنماطٍ سياسية مضادة كليا، أي إلى اتخاذ العنف والارهاب بديلاً، لكن ولاية الفقيه بعد مضي سنوات على استقرار النظام لم يعدْ لها مبررٌ البتة ولكن العسكريين والبيروقراطيين والدينيين السياسيين الذين آلت إليهم الكراسي والثروة، تشبثوا بها، وكونوا سافاك آخر أكثر اتساعاً وشمولية، وتدخلاً في شؤون المواطنين الأسرية والمظهرية والروحية.
كانت الدكتاتورية إنسانيا مرفوضة في الفكر الغربي الديمقراطي لدى اليمين واليسار، لكن بعد مجازر كومونة باريس سنة 1870 بحق الآلاف من العمال ظهرت في الفكر الاشتراكي عبارةٌ خطيرةٌ هي “دكتاتورية البروليتاريا”.
لكنها ظهرتْ كفترةٍ سياسيةٍ مؤقتةٍ يقرُها برلمانٌ منتخبٌ لمدة معينة استثنائية، وليس كحكمٍ مطلق، ولكن الساسةَ الشموليين الشرقيين حولوها إلى نظامٍ سياسي مطلق.
كان الإمام الخميني يتخلى عن ثروتهِ وهو يقارعُ أركانَ الإقطاع، الذي رفضَ الإصلاحَ الزراعي، أبسط إجراء تقدمه ثورةٌ “شيعية” مُفترضة للشيعةِ أكثر الناس المُجحفين والمظلومين والعاملين في ميدان الزراعة على مدى قرون في منطقة الشرق.
وكان ناقلاً للتراث الديني اليميني المحافظ، من دون أن يقوم بنقدهِ ورؤيتهِ كنسيجٍ عبادي فقهي جيّرهُ الإقطاعُ السياسي لخدمتهِ خلال استيلائه على مصير عامة المسلمين وتفكيك صفوفهم من ناحية الأمم ومن ناحية الطبقات ومن ناحية الجنس بين الرجل والمرأة.
ولهذا كان السيد حسين منتظري قد تنامتْ نظرتهُ ووضعَ ولايةَ الفقيه بين قوسين، وبدأ ينفصلُ عن ولايةِ الفقيه كعقيدةٍ، وليس كإجراءٍ سياسي مؤقت، له مبرراتهُ في ظرفٍ تاريخي عابر، لكنه لا يمتلكُ الديمومةَ الشرعيةَ، لا في القرآن ولا في السنة، فشقَ طريقَهُ ليكونَ نظرةً هي الأبقى لرجال الدين شيعةً وسنةً بشكلٍ خاص، لأنهم، كما طرح ذلك، المسؤولون عن ديمومةِ الإسلام أكثر من بقية المذاهب. لقد وضع حجرَ الأساس لإسلامٍ ديمقراطي، بعد جهاد الإمام الخميني في رفضِ التبعيةِ للاستعمار، وفي سبيلِ دولةٍ شعبية يعيشُ فيها الناسُ برفاه.
ولا يمكن تشكلُ النظام المنتظر المعبر عن الناس دفعةً واحدة، بل لابد له من تراكم تجربة ولابد من مؤسسات ديمقراطية تتشكل بين الناس خاصة، وكان ذلك غير متوافر في بداية الثورة، فيجب عدم أخذ النصوصية السياسية وتحويلها إلى مطلق، وهو الأمر الذي فعله المكونون لأنظمة الاستبداد في القرون السابقة.
منتظري إذًا هو اكثر رجال الدين المسلمين إخلاصاً وبُعد نظر، حين رفض دكتاتورية رجال الدين، وأن يكونوا أسياداً مستبدين مطلقين خاصة داخل جهاز السلطة، وأن يستخدموا أدوات العنف، لاستمرار نفوذهم، وهذا الاجتهاد التضحوي من قبله كان يعني قوةً مستقبليةً للمذهب وللإسلام عامة، لأن تبعية الإسلام لأجهزةِ الدولِ يضرهُ ضرراً كبيراً، مثلما تدهور حال الفكر الاشتراكي لجعلهِ أداةً لتبرير سلطات شمولية عبر ولاية الفقيه الاشتراكي، مما جعله يعاني أزمة بدأ يتعافى منها الآن بعد أن خرج من استبداد السلطة.
وقد رفض أئمةُ المسلمين شيعةً وسنةً هذه التبعية لأجهزة الحكم، وفضلوا عليها الاستقلال، وقد أُحضر للإمام جعفر الصادق كتابٌ لكي يملكَ إمبراطوريةَ المسلمين من الصين حتى افريقيا من قبل أبي سلمة الخلال القائد العباسي المتحكم وقتها، فحرقَ الكتابَ على ضوءِ شمعة وفضلَ الفقهَ ودراسة علم الكيمياء، وحاول أبوجعفر المنصور أن يتحكم في الإمام أبي حَنيفة النعمان بكلِ وسيلةٍ من إغراءٍ وعنف، فما استطاع أن يلوي إرادته العظيمة، و”مات” في السجن.
فما بالك أن يكون هؤلاء الفقهاء في قمة السلطة، وفي بحار السياسة المتلاطمة، وبين أيدي العسكر وأجهزة المخابرات يحيطون بهم من كل جهة، ويراقبونهم، ويعزلونهم عن جمهورهم، ويقدمون لهم معلومات مشوهة، وتقارير زائفة، ويفسدون أصحاب النفوس المريضة من رجال الدين، وبالتالي ينشرون الفسادَ السياسي باسم الدين، وباسم رجاله الشرفاء؟
ولو كان حتى هؤلاء الضباط والحرس يعملون في ظروف دفاع عن أرض، ويكونون مُعتدى عليهم، فذلك أهون، ولكن حين يجعلون أنانيتهم ومصالحهم الفئوية ويهددون عالم المسلمين بالحرب والخراب ويعبثون بملايين الأرواح، حينئذٍ تكون المسألة كارثية، على جميع البشر.
ولهذا فإن مواجهة هذا الخطر ينبغي أن تكون من مسئولية الجميع، وأن يحددَ الخصم بدقة، ولا يتم توسيعه بلا مبرر، وأن تُساعد قوى السلام والنهضة في إيران، وقد قفز هتلر إلى الكوارث الكونية بسبب هذين الجهل واللامبالاة من قبل قوى السلام والديمقراطية في ألمانيا.
صحيفة اخبار الخليج
14 ديسمبر 2009