حين يرد اسم تشيلي، يقفز إلى أذهاننا، بين أشياء وأسماء جميلة عدة، اسم بابلو نيرودا، الشاعر العظيم الذي طاف اسمه العالم كله، حتى قبل أن تمنحه الأكاديمية الملكية في السويد جائزة نوبل، كما يحضر اسم ايزابيل الليندي، الروائية الرائعة التي مازالت تدهشنا برواياتها وبفصول السيرة الذاتية لحياتها التي تحولها كتباً ممتعة. ومن كانوا فتية وشباناً مأخوذين بالحلم الثوري في السبعينات الماضية وما تلاها في العالم العربي يتذكرون جيداً اسماً جميلاً آخر: فيكتور هارا، المغني الشعبي التشيلي، الذي اغتاله جلادو الطاغية بينوشيه، غداة الانقلاب الدموي الذي دبرتهُ المخابرات المركزية الأمريكية وتلوثت بدمه أيادي وزير الخارجية الأمريكي يومذاك هنري كيسنجر. الشاعر المصري بالعامية زين العابدين فؤاد، أومأ الى هذا المعنى في قصيدة جميلة تعود لزمن الوعود ذاك بقوله: “الدم في طبق الرئيس الأمريكاني، الدم في طبق الوزير المعجباني”، في الزمن الذي كان فيه كيسنجر يجول المنطقة العربية مكوكياً، وهو يوظف نتائج حرب أكتوبر في اتجاه آخر غير ذاك الذي كانت آمال الشعوب العربية تتوجه نحوه، لكن هذا حديث آخر ليس هذا وقته ولا مكانه. حين حين استولى بينوشيه على الحكم، فتح استاد سنتياغو الرياضي الكبير للمعتقلين من مؤيدي الرئيس الشرعي المنتخب سلفادور الليندي، لأن زنازين السجون لم تكن تكفي لاستيعاب مئات الآلاف من المعتقلين. والى الاستاد المذكور أحضر، أيضاً، هارا. أحد شهود العيان الذي فر من المذبحة روى أن أحد الضباط أمر باحضار الغيتار وقدمه للشاب فيكتور هارا، طالباً منه العزف، إلا أن هارا رفض قائلاً إن موسيقاه للحياة لا للموت، فما كان من الضابط إلا أن قطع أصابع هارا العشر، قائلاً له إن بوسعه الآن أن يعزف موسيقى الموت، ثم أجهز على حياته بالرصاص. منذ نحو اسبوعين شيعت تشيلي في مراسم حضرها الآلاف، جنازة تأجل موعدها ستة وثلاثين عاماً للمغني الشعبي الشهير، وكانت جثته استخرجت في يونيو/ حزيران الماضي لتحديد ملابسات قتله بدقة، حيث تأكد بعد فحص الرفات أن أصابعه قطعت فعلاً. من المفارقات الموجعة أنه قتل في الاستاد الرياضي الذي كان يضج بالحشود الهائلة، تصفق له وتغني معه حين فاز في مسابقة الأغنية الوطنية التشيلية الجديدة في مطالع شبابه، وبعد سقوط الديكتاتورية، وعودة الديمقراطية الى تشيلي أطلق اسمه على هذا الاستاد بالذات تخليداً لذكراه ليكون في ذلك عظة للمستقبل. كان عالم الفلك الروسي نيكولاي شبرنج قد مجد ذكراه بإطلاق اسمه على كوكب اكتشفه بعد أسبوع من اغتياله. أرملته روسا التي حضرت الجنازة قالت بتأثر متمالكة نفسها وحابسة في مقلتيها الدموع، وفي قبضتها اليمنى قرنفلة حمراء: “كان هناك فيكتور هارا واحد فقط واختطفوه منا، نحن هنا رداً على ما انتزعوه منا”. ان الله يمهل ولا يهمل. فمآل الطغاة مهما طال أمد طغيانهم الى النسيان والخزي، أما المبدعون الكبار الذين شكلوا وجدان البشرية فيظلون أحياء في الضمائر. نهر خالد للحرية يعبر الحياة، مثله مثل الزمن لا يُبلى ولا يشيخ. ذاكرة طازجة تُلهم كل الذين يتوقون لأن يكون هذا العالم أجمل وأروع، والذين يدركون ان ذلك لن يحدث من تلقاء نفسه، انما بإرادة التضحية التي لا تهون.
صحيفة الايام
14 ديسمبر 2009