غالباً ما نأخذ المشكلات العامة من دون ربطها بالبناء الاقتصادي، لكن هذا البناء يترك بصماته على كل ظاهرة.
فتعودُ أزمةُ المرور إلى توجه كل من القطاع العام (الرأسمالية الحكومية)، والقطاع الخاص(الرأسمالية الخاصة) إلى جلب سيارات بكثرةٍ هائلةٍ للحصولِ على فوائد مالية، مرةً بشكلِ رسوم، ومرةً بشكل أرباح.
وتُجلبُ هذه السيارات الكثيرة من دون أي خطة، أو رؤية لحجم التناسب بين حشودِها المتدفقة بلا توقف وبلا تنظيم وبين إمكانيات الشوارع المحدودة التطور والمرتبطة بإنشاءات حكومية شديدة البطء.
الخطة الحكومية لو كان يمكن أن تظهر لحدث تفكير مستقبلي ودراسات للطرق ولمواصلات عامة. لكن الرأسمالين العام والخاص ينزعجان من وجود قطار أو مترو، مرةً لأنه “يشفطُ” أموالاً ومرة لأنه “يشفطُ” أرباحاً.
لكن هذا العَصرَ المستمرَ لجيوبِ المواطنين والمقيمين، لا يمكن أن يستمر، لأن للدخول مستواها، ولأن للشوارع إمكانياتها، وهذا كله ينعكس على بطء الأعمال، وتدهور الإنتاج، وكثرة الأمراض.
مستوى الرأسماليتين الحكومية والخاصة مستوى محدود ضيق، بمعنى أن وجود السوق الضيقة، يقود إلى تفكير أكثر ضيقاً، وتغدو الرأسمالية الحكومية بيروقراطية، تعمل بشكل بطيء، لا توجد لديها خطط عميقة تفهم ما هو البناء الاقتصادي الذي تعمل فيه، فتهدرُ موارد وإمكانيات من جهة، وتتوجه للحصول على الأموال بطرائق تؤدي إلى نضوبها المتصاعد من جهة أخرى.
تحاول مراعاة الرأسمالية الخاصة في ضيق تفكيرها، لكون مراعاة ضيق التفكير هذا تعطيها دخولاً كبيرة خاصة الرسوم على البضائع الاستهلاكية، وهي رسوم عالية، وأرباح الرساميل خاصة عالية، لكنها تقعُ على حساب دخول المستهلكين.
ونمو شراء البضائع الاستهلاكية المتسارع يؤدي إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، بدلاً من أن يكون رفاهاً متطوراً، لأن الرفاه المتطور يقوم على إنتاجية متطورة في المجتمع، وليس على بيع الغاز والبنزين وخامات الألمنيوم والحديد، وبيع الخامات عمليات مرتبطة بالسوق العالمية وأسعارها ونزولها الراهن ذي الانعكاسات المخيفة.
للحصول على أرباحٍ من البضائعِ الاستهلاكية مرتفعة بشكل مستمر يجرى جلب العمالة الأجنبية الرخيصة بتوسع وتجميد الأجور، وعدم القيام بمشروعات حكومية رأسمالية كبيرة، وعدم حصول رقابة دقيقة على الأرباح وعلى تسربات البيروقراطية الحكومية، هذا كله يقودُ إلى تضعضعِ دخولِ الغالبية الساحقة من السكان، وهي دخولٌ ليست كبيرةً بشكلٍ عام، وإلى عدمِ قدرتِها المتزايدة على شراء تلك البضائع الاستهلاكية، لأنها يجب أن تدفعَ لبضائع كبيرة أخرى أيضاً مثل الأرض والسكن والأكل المتصاعدة الأسعار، وتصاعدها بغرض نمو الأرباح للرأسماليتين الحكومية والخاصة.
هذا كلهُ يعيدُنا إلى أزمةِ المرور، فالحراكُ الاقتصادي السابق ذكره، يقودُ للمزيدِ من شراءِ السيارات بمختلفِ أنواعها، بغرض غير استهلاكي بدرجة أساسية، أي هو للوصول إلى الأعمال غالباً، وللمستلزمات الأخرى، ولكن هذا الوصول نفسه يغدو مشكلة، فتتشكل حلقةٌ مفرغة.
إن مشكلةَ عدمِ تطورِ الرأسماليتين الحكومية والخاصة، تتجلى في ضعفِ علاقتهما المشتركة لحل مشكلات الاقتصاد والبنية الاجتماعية عامة، فالرأسمالية الحكومية تستغلُ الرأسماليةَ الخاصة، التي تستغلُ بدورها الجمهورَ، ولا تقومُ بتصويبِ نشاطها للمزيد من تطورها الاقتصادي وتطور الاقتصاد الوطني، ومشكلة الرأسماليتين تقومُ كذلك بسببِ ضعفِ تكوين الرأسمالية الخاصة، وتوجه أغلب رساميلها للتجارة وللعقار والصرافة، مما يعطي بنيةً ضعيفةً وتوجهاً للبضائع السريعة الدخل والمرتفعة الربح.
إن التحول من هذا الضعف، بأشكالٍ اقتصادية جديدة، لن يجعل تكوينات الرأسمالية الخاصة تجاريةً بشكلٍ شبه كلي، وتقومُ على بيع الاثاث والسيارات وغيرهما، بل يدخلها في العصر التقني المنفجر، والصناعات الحديثة، عبر تعاونها وتداخلها وتنامي عقولها، وكذلك برؤيةِ بلدها على أنه ليس حقلاً مستنزفاً محروقاً في نهاية المطاف.
صحيفة اخبار الخليج
12 ديسمبر 2009