ما زلت أذكر ورقةً قدمها أحد الأساتذة العرب في ملتقى أكاديمي أقيم في الإمارات منذ سنوات خلت، عن “نظرة العربي إلى أخيه العربي”، وان لم تخنِ الذاكرة فان الورقة كُتبت على قاعدة استطلاع ميداني قام به الباحث لعينة من المواطنين العرب من بلدان عربية مختلفة. لا أذكر التفاصيل الآن، ولكن ما اذكره أن النتيجة التي خلص إليها الباحث ليست متطابقة مع الحديث الرومانسي السائد في خطاباتنا عن الأخوة العربية، وهي على كل حال أخوة حقيقية مُسببة بعوامل موضوعية وتاريخية راسخة. ولكن التطور “ المستقل” أو المنفرد لكل بلد من بلداننا بمعزل عن بقية البلدان العربية قد أقام ما يشبه الحواجز من الريبة والحذر والحساسية، التي يمكن أن تتحول في فترات الأزمات والخلافات التي يدخل فيها أي نظام عربي مع نظام عربي آخر إلى شكل من الكراهية، خاصة حين تتوجه وسائل الإعلام إلى تغذيتها والتحريض عليها وتجييشها. أعرف أن هذا واحد من الموضوعات المسكوت عنها لأسباب عدة، بينها أن الحديث حولها حديث مؤلم، لأنه ينبهنا إلى ما أحدثته التجزئة في عالمنا العربي من عوامل فرقة بغيضة، باتت تتطلب جهوداً جبارة من النخب المثقفة والمفكرين ممن يتحلون بالشعور بالمسؤولية إزاء ظاهرة مثل هذه، ويمتلكون من وسائل التأثير في تشكيل الرأي العام ما يؤهلهم لتوجيه الأمور في اتجاهات صحية. نقول هذا، ونحن نعلم أن بعض من يدعون وصلاً بالثقافة والفكر في بلداننا العربية أصبحوا هم أيضاً ملوثين بداء الإقليمية والتعصبات الضيقة العمياء، على حساب المشتركات والجوامع الكثيرة التي يفترض أنها تجمع العرب على اختلاف بلدانهم. هذا كلام أكتبه على خلفية الجو المشحون الذي رافق المنافسة الكروية بين مصر والجزائر للتأهل لمونديال جنوب أفريقيا، والتي شغلت لا جمهور البلدين فقط، وإنما الجمهور العربي كله. وليس في الحماسة التي ترافق المنافسات الكروية ما يعيب، فهي ظاهرة تحدث حتى بين جمهور فريقين مختلفين في بلد واحد. لكن هناك فرقا بين هذه الحماسة المشروعة والمفهومة، وحتى الصحية، وبين ذلك التجييش الاعلامي والنفسي المحموم والعدائي الذي صاحب التنافس الجزائري – المصري للتأهل للمونديال، والذي انخرطت فيه نخب وقادة، كأن ليس لدى شعوبنا ما يشغلها أكثر ممن يُمثلها من المنتخبات الكروية في جنوب أفريقيا. فليست غوغاء الشارع وحدها هي المنخرطة فيه، وإنما النخب السياسية وكذلك بعض الفنانين وحتى “المثقفين”، الذين كان منتظراً منهم أن يتحولوا إلى رجال إطفاء للفتنة، فاختاروا دور من يصب الزيت على نارها. هل البلد الذي يبلغ فريقه المونديال، سيصبح قادراً على حل مشكلة البطالة وضعف الإنتاجية وتفشي الفساد والبيروقراطية واستفحال التطرف والتعصب والعنف، لتضحي “القضية المركزية” للعرب هي من يمثلهم فيه؟ هناك من يريد أن يدفعنا إلى هذا المآل، فيجري التمويه على الأمراض العضال في البنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لمجتمعاتنا العربية، التي تعاني من النقص الفاضح في العدالة الاجتماعية وفي الشراكة السياسية وفي برامج وخطط التنمية ومن غياب البيئة الصحية السليمة، والعافية النفسية للمجتمعات، عبر إشغال الناس بأمر تافه ومفتعل، مثل تداعيات مباراة لكرة القدم لن تقدم ولن تؤخر مقدار خردلة من أوضاعنا العربية البائسة، فحُولتْ إلى مسألة كرامة منتقصة. لنعد إلى رشُدنا، ونوقف هذا العبث.
صحيفة الايام
12 ديسمبر 2009