“مات رجل/ لم يكن يملك ما يدافع به عن نفسه/ غير ذراعيه الممدودتين للحياة/ مات رجل / لم يكن له طريق آخر/ غير ذلك الذي يكره فيه الإنسان البنادق / مات رجلٌ / ضد الموت.. ضد النسيان/ مات/ لأن كل ما يريده/ كنا نريده نحن أيضاً”
حين يحاول المرء أن يرثي شهيداً كالشهيدين محمد غلوم وسعيد العويناتي لا يملك سوى هذه الكلمات الرائعة التي رثا بها الشاعر الفرنسي الكبير بول ايلوار، الشهيد جبريل بيري، بطل المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي. فلم يكنا يملكان ما يدافعا به عن نفسيهما أمام سياط الجلادين سوى ذراعيهما الممدودتين للحياة، واستشهدا لأن ما كانا يريدانه نريده نحن أيضاً.
لم يكن قد مضى شهر واحد فقط على استشهاد الشاعر سعيد العويناتي، حين صحا الناس في صبيحة احد الأيام في قرية جدحفص ليقرأوا على الحيطان عبارات بالخط العريض:”يعيش البطل سعيد العويناتي”، وجن جنون المتورطين في قتل سعيد بحثاً عن الفاعل، وفي الثالث من يناير 1977 اعتقل ستة أطفال من القرية ذاتها لا يتجاوز سن أكبرهم الرابعة عشرة، وضُربوا ضرباً مبرحاً، بعد أن فُتشت منازلهم وصُودرت كتبهم الدراسية.
كان المطلوب نزع اسم سعيد ورفيقه محمد غلوم من ذاكرة الناس، والتعتيم على الجريمة، وإخراس صوت من يتكلم عنها، ولكن الشهيدين يحضران في كامل ألقهما وبهائهما في ذكرى استشهادهما الفاجعة من كل عام، ليؤكدا لمن أمر بالقتل ونفذه، إننا قد نغفر، لكننا لا ننسى أبداً كما قال الزعيم الكبير نيلسون مانديلا.
لم يصدر للشهيد سعيد العويناتي سوى ديوان شعر وحيد هو:”إليك أيها الوطن.. إليك أيتها الحبيبة”، لأن القتلة عاجلوه بالقتل في بدايات مشروعه الشعري وهو لما يزل شاباً في منتصف العشرينات من عمره. وفي أكثر من موضع من مواضع الديوان ثمة هجس بالمصير الدامي الذي ينتظره، حيث تحضر بكثافة إشارات الموت والسجن والمطاردة والتعذيب، كأن الشاعر كان يتوقع تلك النهاية البطولية لحياته القصيرة:
“هذا شرطي آخر يحمل إيقاع الموت / وفي عينيه قرار القتل السري”، أو في هذا المقطع الذي يحمل فاجعة النبوءة وجلالها:”هنا أدخلوني السجون/ ولم أمض شهراً كي أستريح”.
لم يكن شهراً يا سعيد، أنها أربع وعشرون ساعة فقط فصلت بين اعتقالك وقتلك.لكن هل قتلوك؟.. لقد شُبه لهم فقط، يا صديقي ورفيقي، فمثلك لا يموت.