لأن قادة الدول الرأسمالية الكبرى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، يشعرون في قرارة أنفسهم ليس فقط بالمسؤولية الاخلاقية والتاريخية التي تتحملها دولهم تجاه عار العصر المتمثل في مأساة مليار ومائتي مليون جائع في العالم، بل لعدم استعدادهم الجاد لتقديم أدنى مساعدة ممكنة لإنقاذ حياة أولئك الجياع الذين يمثلون خمس البشرية، فقد تغيب معظم أولئك القادة عن حضور قمة روما لمكافحة الجوع الأخيرة، ولم يجد معظم قادة الدول العربية بدورهم حرجاً من التغيب أيضاً عن هذا المؤتمر بالرغم من أهميته لبعضهم لوجود نسبة من الجياع ما بين سكانهم ولوجود شريحة من الفقراء متفاوتة النسب في كل الدول العربية واكتفى أغلبهم بالمشاركة في القمة على مستوى أقل من زعماء دولهم.
وكان ابرز المشاركين من الزعماء العرب الزعيم الليبي معمر القذافي الذي انتهز فرصة تغيب قادة الدول الكبرى الرأسمالية ليخطف الاضواء مجدداً، كما خطفها قبل ذلك بفترة وجيزة في الامم المتحدة، وذلك بأن انتقد بشدة تغيبهم معزياً اياه إلى أنهم قرروا عدم المساهمة في حل مشكلة الأمن الغذائي العالمي، وأضاف ما مفاده ان ذلك يحدث في الوقت الذي يشرف على الموت جوعاً ملايين الاطفال في افريقيا وآسيا وامريكا الجنوبية.
ولم يقتصر الأمر عربيا على غياب معظم الاقطاب العرب المفترض حضورهم الى قمة الجياع في روما فحسب بل غاب عن المؤتمر أي حضور عربي شعبيا مدنيا على هامشه بصفة مراقب او مستمع متابع لمداولاته للتأثير والضغط من قرب على المؤتمرين للخروج بأدنى ما يمكن من قرارات تخفف من حدة كارثة جياع العرب والعالم أجمع.
وفي الوقت الذي أسهم فيه بابا الفاتيكان بكلمة امام المؤتمر حث فيها على بذل المزيد من الجهد للقضاء على ظاهرة الجوع وواضعاً يده على جرح مسبباتها بأنها تكمن “في الطمع والمضاربات وليس زيادة عدد السكان” ومع انه لم يسم الدول الرأسمالية الا انه أضاف مؤكداً ان “الارض قادرة على انتاج غذاء يكفي كل البشر” بدليل النهج الذي دأبت عليه الدول المتقدمة من تدمير للسلع الغذائية لجني الأرباح بغية ضبط العرض في السوق لكي لا تتدنى الاسعار.. نقول في الوقت الذي تأتي فيه كلمة البابا هذه فإن مؤتمر روما خلا تماماً من أي كلمات أو رسائل لرموز اسلامية كبيرة لدولنا العربية، هذا على الأقل ما نستنتجه من غياب أي ذكر لمثل هذه الكلمات في التقارير الاخبارية العالمية.
واذا كان بابا الفاتيكان قد عرى دور الرأسمالية في صناعة الجوع من دون ان يسميها فإن مما له دلالته ومغزاه ان يعبر الشعب الافغاني بوعي معمق بالتزامن مع انعقاد قمة روما عن السبب الجوهري في استمرار صراعاته الاهلية موعزاً اياها الى الفقر والبطالة حسب نتائج دراسة استقصائية لمنظمة اوكسفام الدولية للإغاثة، هذا الى جانب الفساد الحكومي. واللافت ان نسبة قليلة هي التي ارجعت السبب الجوهري لحروب افغانستان الى التدخل الخارجي او طالبان او القاعدة وهذا يعني ان الافغان يعون جيداً جوهر مأساتهم المتواصلة منذ 30 عاماً، فلولا هذه المأساة (الفقر والجوع) لما انشغل الافغان بكل هذه المنازعات ولما تورطوا فيها أو غرر بهم من قبل تجار ومشعلي الحروب في الداخل والخارج على السواء.
قلنا يوم أمس ان الآفة لا تسعف ضحاياها بمعنى ما كان ينبغي من أحد أن يعجب لغياب قادة الدول الرأسمالية عن قمة روما حول الجوع لان هذه الدول هي التي تسببت في الكارثة فكيف لها ان تنقذ ضحاياها منها؟ ولعل واحدة من ابرز المفارقات التي تؤكد هذه الحقيقة ان الكارثة لم يعد يكتوي بنيرانها شعوب بلدان العالم الثالث فحسب بل الدول الرأسمالية نفسها، وعلى رأسها الولايات المتحدة، ففي الوقت الذي تغيب رئيسها اوباما عن حضور القمة كانت وزارة الزراعة الامريكية تعلن أن عدد “الجياع” الامريكيين قد وصل الى 49 مليون شخص وهو أعلى معدل خلال 14 عاماً، واعترف المحللون الامريكيون بأن ازمة الرأسمالية الاقتصادية الاخيرة التي اصطلحوا على تسميتها بـ “الازمة المالية”، وبالرغم من محاولة وزارة الزراعة الامريكية تحاشي ان تسمي الظاهرة بـ “الجوع” وتحاول ان تصنف الجائعين الى درجات من حجم او حدة الجوع، فإن الرئيس اوباما نفسه لم يجد مناصاً من تسمية الاسماء بأسمائها حينما استنكر استفحال الظاهرة قائلا: “لقد ارتفعت معدلات الجوع الى حد كبير خلال العام الماضي”.
أكثر من ذلك فإن محللين امريكيين يرجحون بأن عدد الجائعين يتجاوز 49 مليونا لأن وزارة الزراعة لم تأخذ بعين الاعتبار وقت المسح الاحصائي معدل البطالة الحالي الذي بلغ 2،10%. ومن أين تأتي البطالة؟ أليس من الرأسمالية؟ أليست هذه الظاهرة صفة لصيقة بها منذ بدايات صعودها وهي ستلازمها طالما بقيت على الحياة واستمرت بطبيعتها الاستغلالية المتوحشة؟
واذا كانت واحدة من أبرز مفارقات قمة روما المخصصة لإنقاذ جياع العالم انها انعقدت ليس في ظل غياب رئيس أكبر واقوى دولة رأسمالية في العالم بل بالتزامن مع اعتراف وزارة الزراعة بالعدد المخيف للجياع الامريكيين فإن مكتب الاحصاء قبل ذلك بفترة وجيزة اعترف بأن نحو 40 مليون امريكي يعيشون تحت عتبة الفقر هذا بخلاف اعداد الجائعين.
وعلى الرغم من ظاهرة الجوع المتفاقمة المرعبة، كواحدة من افرازات أزمات الرأسمالية وما يترتب عليها من نتائج وظواهر اجتماعية اخرى خطيرة كانتشار الجرائم والعنف والسرقات والاعمال الارهابية، فإنه يحسب للولايات المتحدة على الأقل انها ترصدها وتوثقها احصائيا بحد ادنى معقول من الشفافية في حين ان الدول العربية مازالت ترى ان انشاء اجهزة رصد حكومية من هذا القبيل يعد ضربا من العيب الذي يمس كرامتها ويفقد بريق ارقام انجازاتها الفلكية في التنمية البشرية بل هي لا تعترف اصلاً بوجود ظاهرة اسمها الفقر والجوع في مجتمعاتها.
لكن يظل الجوع هو بامتياز صناعة رأسمالية في البلدان المتبوعة والتابعة على السواء.
صحيفة اخبار الخليج
9 ديسمبر 2009