كلُ لحظة دينٍ تأسيسيةٍ بطولية هي لحظةُ يسار.
وكلُ هزيمةٍ لرموزِ الدين في لحظةٍ تالية هي لحظةُ يمين.
مثلما هي ثوراتُ الشرق التأسيسية الحديثة كانت ثوراتُ الأديان ترتعش بين السحر والعلم، بين الغموض غيرِ المسيسِ الواقعي وذي القفزات في الحلم الاجتماعي، وبين الإمكانيات الموضوعية المحدودة لزمانهم، كان الأنبياءُ قادةَ ثوراتٍ، وتحولاتٍ، في ظلِ ظروفٍ صعبة رهيبة، وكان عليهم أن يدفعوا الضرائب الثقيلة لتحدياتِهم سواءً كانت عذاباً في حياتهم أم كوارث لأهلهم فيما بعد.
هناك التداخل بين السحر والنبوة، حيث يستمدُ الداعي العديدَ من أفكارهِ عبر الغيب، وعبر مخاطبةِ قوىً مفارقةٍ تمتلكُ معرفةَ المستقبل، وتحديدَ المصير، وتحديدَ العالم ومسارَهِ كليا ونهائيا، ومع هذا تبقى اللحظات اليومية مجهولة، ومصير الحركة السياسية الدينية متعلقاً بالخطوات الذكية على الأرض وبمعرفة القوى الاجتماعية وكيفية جذب العامة وعزل قوى الطغيان.
لكن التحولات التكتيكية تبقى مفهومةً وعزل الملأ الارستقراطي مفيداً لتغييرات كبيرة، ويظهر هنا الحلمُ الغامض السرمدي، بظهورِ دولة الفقراء وانتصار المعذبين في الأرض كليا، وإن الذين استضعفوا في الأرضِ سوف يُمن عليهم ويكونون هم الوراثين.
هو تبشيرٌ سياسي بانتصار الكادحين في بعض الأديان التام والنهائي، لكن ما يجري على الأرض يمضي بخلافِ ذلك، فالأغنياءُ هم الذين يصعدون، بسبب أن صعود الفقراء ظل في حالةِ الحركة الثورية، التي تهزُ قوانينَ التطور الاجتماعي، وتلغي بعضَ أوجهِها في لحظةٍ استثنائيةٍ تاريخية، ما تلبث أن تزولَ لأنها لحظة غير تقليدية، عابرة، ثم ترجعُ قوانينُ التاريخ في الأنظمة الاستغلالية، ويعودُ الأغنياءُ للسيطرةِ على مقاليد الحكم، وتعودُ الثروةُ “لأصحابها”، حتى يأتي زمنٌ مختلف يلغي التفاوت، له قوانينٌ أخرى.
وتدفعُ قوى الحلم الثوري ضريبةً مضاعفة بين صعود الثورات وهبوطها، فالنبي موسى يُمنع من دخول الأرض الفلسطينية ويحدث انقلابٌ عليه، والنبي عيسى يجري ما جرى له من عذاب بتعدد الروايات الدينية، والعائلة النبوية المحمدية تجرى تصفيتها بشكلٍ دموي رهيب وكذا الكثير من الصحابة وأصحاب حلم المساواة، ويعدمُ أهلُ المقصلةِ الفرنسية نبلاء وثوريين كباراً، ويصفي ستالين أبرزَ قادة حزب الثورة والكثيرين من العامة.
في منطقة التحولات الثورية العاصفة يصعدُ الفقراءُ وتظهرُ رموزٌ منهم، وهي لحظةٌ تبينُ الاستثناء والبطولة وتحطيم معايير الذل والخضوع وكسر عالم الطبقات، لكنها مجردُ لحظةٍ ثم تأتي القاعدة.
تظلُ الشعوب تعيشُ في الحلم، في لحظةِ الاستثناء والبطولة تلك، وترى انها تاريخها الحقيقي، غير الزائف، لأنها وجدتْ فيها روحَها الحرة الضائعة في عوالمِ القهر.
لا يخلو أي قائد ثوري حديث في الشرق خاصة من الجمع بين العلم والسحر.
حين نقول إن قائد ثورة أكتوبر يجمع بين العلم والسحر لن نكون مغالين. بين برنامج الكهربة وتوزيع فوائض الإنتاج على العاملين، ثم بين برنامج إزالة الاستغلال ومحو الطبقات، ثمة هوة كبيرة، في الطرف الأول يحلُ البحثُ والعلم، وفي الطرف الثاني يحلُ السحرُ.
دائماً هنا في الثورة حس الأبدية، والمطلق، وحس السيطرة على التاريخ إلى نهايته، فتحدث فترةُ الاستثناءِ الثوريةِ البطولية بضع سنوات أو بضعة عقود ثم تعودُ القاعدة، بسبب مستوى سيادة أساليب إنتاج موجودة ومتنامية قبل الثورات وبعدها.
الإسلامُ التأسيسي لم يعرفْ ما هي طبيعة علاقات الإنتاج السائدة لدى البشرية القريبة منه، وفي عالمهِ البدوي الحر، تصورَ إمكانيتَهُ المطلقة على صنع التاريخ، وكون القوة والعدالة النسبيتين بين الناس كافيتين لزوالِ الشرِ والاستغلال إلى الأبد.
لكن العالم الأرضي الواقعي كان يعيش زمن الانتقال من أشكال الإنتاج العبودية والمشاعية والبطريركية إلى أشكالِ الإقطاع، التي انتشرتْ وسادتْ في آسيا وأوروبا، وهي تجعلُ من ملكيةِ الأرض وخراجها أساس الوجود السياسي للدول.
وكان زمنُ الانتقال في عصر روسيا الاشتراكية هو زمن الرأسمالية العالمية واكتساحها الأرض. لكن الوعي السياسي المغيب عن العلوم يتصور انه زمن الانتقال للاشتراكية. هو غيبٌ بشكلٍ آخر، ولهذا يتكون الماركسيون بشكلين علمي شعاري وديني غائر.
هنا لابد للحلم والسحر من أن يتدخلا ليعطيا للعاملين إمكانيةَ التحليقِ في أجواءِ الفضاءِ المليئةِ بالمن والسلوى، وهم يدفعون ضرائبَ العمل والتضحية، مثلما أن جمهورية إيران تجعل البسطاء يطيرون بأجنحة الأئمة في أجواء الملكوت الرحبة، وتتكاثر مقابرهم ثم تتكاثر سجونهم في مرحلة لاحقة، مثلما أن جمهورية الحلم القومية العراقية تتحول فيما بعد إلى جهنم.
صحيفة اخبار الخليج
9 ديسمبر 2009