لم يبلغ إمام دين وقائد دولة في وصف الفقر كما أبلغ الإمام علي بن أبي طالب “ع” حيث قال: “لو كان الفقر رجلا لقتلته”. فمنذ عصور غابرة، وتحديدا منذ نشأة الطبقات في المجتمعات البشرية وانقسامها إلى أغنياء وفقراء، أو طبقات مستغَلة (بفتح الغين) ومستغِلة (بكسر الغين)، ومع ان الفقر موجود والفقراء موجودون في كل المجتمعات من دون استثناء إلا ان مصادر ومراجع التاريخ لا تنقل إلينا كوارث بشرية عن حالات الفقر والجوع والاعداد الهائلة للجياع والفقراء في العالم كالتي نشاهدها بأم الأعين الآن في مختلف بلدان وبقاع العالم، كما لم تخبرنا مراجع التاريخ بوجود أعداد هائلة من الجياع كالتي نسمع عنها حاليا حيث بلغ مجموعهم مليارا ومائتي مليون جائع حتى مع الأخذ في الحسبان مجاميع سكان العالم في تلك العصور مقارنة بمجموعهم الآن.
أكثر من ذلك فقد صدق من قال: “الجوع كافر”، فهو وراء ظهور آفات اجتماعية وجرائم وموبقات لا حصر لها سواء بصورة مباشرة أو بصورة غير مباشرة.
لكن لماذا لم تكن نسبة حجم ظاهرة الجوع ونسبة أعداد الجياع في العالم ضخمتين على مدى تاريخ العالم كله على النحو الذي بلغتاه في عصرنا الحاضر؟
الجواب ببساطة لأن الطبقات المستغِلة (بكسر الغين) لم تصل إلى حد من التوحش الشرس في تلك الأزمنة الغابرة وصولا إلى فجر تاريخنا العالمي الحديث الذي بلغته الطبقات المستغلة في عصرنا الحاضر، وعلى رأسها الرأسمالية، لا بل ان الطبقات الاستغلالية القديمة على تعاقب الحقب والمراحل التاريخية لم تكن تملك أصلا وسائل السيطرة الرهيبة لاخضاع الطبقات المستغَلة (بفتح الغين) وتركيعها وسحقها كالتي تملكها الرأسمالية الآن وعلى الأخص الشريحة منها التي باتت تعرف بـ “الرأسمالية المتوحشة”، والوسائل التي تملكها هذه على الطبقات الفقيرة المسحوقة لا تقتصر فقط على الاسلحة البالغة التطور، بل تشمل وسائل متطورة أخرى عديدة، كالإعلام المتخصص في غسل المخ، وكالبنوك المرابية وأنظمة القوانين والاقراض والائتمان، دع عنك استغلال العمال والمستخدمين في المصانع والشركات عبر تشغيلهم بأجور بخسة ولساعات عمل طويلة العديد منها غير مدفوع الأجر كما هو الحال بوجه خاص في الكثير من دول العالم الثالث وفي أقطار مجلس التعاون الخليجي وعلى الأخص العمالة الأجنبية. ومن ظواهر ونتائج ما تسببه الرأسمالية العالمية من افقار وجوع لشعوبها ولشعوب العالم الثالث بسبب طبيعتها الاستغلالية المتوحشة وما تملكه من قوة كدولة لفرض سيطرتها السياسية والاقتصادية والعسكرية.. نقول من هذه الظواهر البطالة المرتفعة وارتفاع الأسعار وتدني الأجور وكلها مجتمعة تعد بمثابة العوامل الرئيسية لازدياد حدة الفقر والجوع وللازدياد المطرد لأعداد الفقراء والجياع في العالم.
ان الرأسمالية الأمريكية اليوم تقف في مقدمة الدول الرأسمالية المسئولة عن تفاقم كارثة الجوع حدة ولازدياد أعداد الجياع والفقراء ليس في العالم فحسب بل داخل بلادها الولايات المتحدة نفسها، ولاسيما منذ انفجار أزمتها المالية في خريف العام الماضي 2008م وهو الانفجار الذي سرعان ما عمت شظاياه اقتصادات العالم بأسره وسرت في مفاصلها سريان النار في الهشيم.
ومنذ تفاقم محنة وكارثة فقراء العالم وجياعه بانفجار تلك الأزمة المالية انعقد الكثير من المؤتمرات الاقتصادية العالمية تحت عناوين مختلفة جميعها جاء عقدها من باب “رفع العتب” ومسايرة الأخلاق والقيم الانسانية في ظل تفاقم أزمة الفقر والجوع عالميا من دون ان تحلحل قيد أنملة ليس من الكارثة فحسب بل من دون ان تضع أدنى حد لتفاقمها المطرد اليومي. والسبب في ذلك بكل بساطة يعود إلى أن الدول الرأسمالية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، غير جادة في حل مشكلة الفقر والجوع لا في العالم ولا في بلدها نفسه مادام القاضي هو الزاني، فمنذ متى كانت الآفة تملك علاجا لاشفاء ضحاياها والمبتلين بها؟
آخر مؤتمر من سلسلة هذه المؤتمرات والقمم المتعاقبة التي خصصت لمعالجة الجوع وليختم أعماله كأسلافه المؤتمرات السابقة ببيان انشائي هزيل “لا يسمن ولا يغني من جوع” بالمعنى الحسي الفعلي لهذه المقولة المأثورة لا بالمعنى المجازي كما اعتدنا في وصف المؤتمرات الأخرى الفاشلة غير المختصة بالجوع، هو مؤتمر قمة الأمم المتحدة لمكافحة الجوع الذي عقد مؤخرا في روما. ولربما حسنته اليتيمة الوحيدة الموافقة الالتوائية على زيادة المساعدات الزراعية الى الدول الفقيرة علما بأن منظمة الاغذية الدولية “الفاو” كانت قد طلبت إلى المؤتمر 44 مليار دولار سنويا وشدد جاك ضيوف مدير المنظمة على أهمية الرقم كحد أدنى لا مناص منه، وهو محق في ذلك إذا كان المؤتمرون جادين حقا لرفع المساعدات الى 44 مليارا لإنقاذ جياع العالم ولخفض عدد جياع العالم الى النصف بعد ست سنوات (عام 1015م)، علما بأن المهلة التي حددت مسبقا للقضاء على الجوع بعد 25 عاما تقريبا من الآن (عام 2025م)، والتي شكك أكثر المراقبين في الايفاء بها ألغيت من المشروع الاصلي وأقر المؤتمرون باستحالتها.
لكن ماذا لو اكتشفنا انه بحلول عام 2015م، أي بعد ست أعوام من الآن قد بقي عدد جياع العالم على حاله إن لم يتضاعف؟
وماذا لو اكتشفنا انه بحلول عام 2025م وهو الموعد الذي حدد سابقا لانهاء الجوع من العالم لم يتم القضاء حتى على نصفه؟
على الأرجح هذا ما سيحدث فعلا ولن يفاجأ بذلك إلا من لم يفهم أو لا يريد أن يفهم الطابع الاستغلالي للرأسمالية بعد، أو من يتوهم بقرب زوالها المحتوم.
صحيفة اخبار الخليج
8 ديسمبر 2009