بدا لي العالم هذا اليوم أكثر قتامة وإحباطا وذعرا وأنا اخرج من بوابة السينما بعد مشاهدة فيلم 2012 ، حيث نقترب من حافة النهاية لكوكبنا، والرسالة الثقافية الفنية للفيلم كانت نبيلة وعظيمة حول مفهوم إمكانية تعاون العالم بكل اختلافاته ووجهات نظره في التكاتف من اجل إنقاذ كوكبنا، الذي لعبت به الصراعات والمصالح الضيقة للبلدان المهيمنة، وجاء الوقت لتنظيف البيئة المدمرة من اجل مستقبل الأطفال القادمين، فبدت الرسالة الإنسانية والحضارية للفيلم مهمة، وكان الدمار والكارثة فرصة معبرة عن شعور سكان العالم الممزق والمتصارع إلى العودة إلى دواخلهم الإنسانية والالتفات بكل جدية لما يجمعهم في هذا الكوكب، وبدلا من تمزيقه وتدميره، فان الحاجة الملحة باتت العودة إلى الغريزة الأولى للإنسان الأول الذي تصالح مع نفسه ومع بيئته ومحيطه، متجاوزا الأنانية الضيقة لدى شعوب وبلدان العالم وأنظمتها المتصارعة، في نظرتها لذاتها وبتعميق رؤيتها عن إن إنسان هذا الأرض، صار أكثر شمولية وكونية وترابطا من السابق، وحان الوقت للتعلم من الخوف والموت الذي يصنعه الإنسان لنفسه مع وهم البحث عن راحته، متناسيا ان السعادة والحضارة والإنسانية بيت واحد لا يمكن تقسيمه، وبان العلماء هم أكثر الناس سعيا لمعالجة أمراضنا وبيئتنا من الدمار والضياع، فيما يظل الساسة ورجال الأعمال هم أكثر الناس تلاعبا بقيم الكون وثروته الشاملة. الفيلم إلى جانب قيمته الفنية الرفيعة كسينما هوليودية دون منافس، فان للحوار والاضاءات والأفكار المتناثرة في سيناريو الفيلم، تركت بصمتها بوضوح، وهي لا تحتاج لعقل كبير لاستشفاف قيمتها وأهميتها. هل تصبح بعد ذلك النمط من الأفلام مشاعرنا وأفكارنا وقيمنا ملتبسة وحائرة، وتخضع لامتحان الأسئلة الكبرى؟ في وقت تحاصرنا فيه نحن العرب أزمات متشعبة، وأوضاع متردية، تبدأ من مؤشرات وأرقام الأمية والفقر والفساد، وانتهاء بأرقام الموتى والجرحى في حروب أهلية وداخلية وحدودية وكروية! مناخ عربي متوتر، فكلما أغلقنا بوابة من الأزمات وجدنا أنفسنا ندخل بوابات جديدة متعددة الأوجه والتناطح، فمن يقرأ الاخبار ويتصفح الجرائد لا يرى عنوانا مريحا، فهل يسعدنا مجرد «لقاء مصالحة بين جنبلاط وعون!!؟» في وقت نجد فيه إسرائيل، متطفلة على سياساتنا العربية! فتحذر لبنان من مشاركة حزب الله في الحكومة. وهناك خبير إسرائيلي يدعو لإثارة حرب أهلية بين الفلسطينيين! وكأنهم لا يرغبون حوارا وحلا للمشكلة معنا، بقدر ما هم بحاجة لصب الزيت على النار، حيث الحريق العربي المستمر تمزيق لجسد الخارطة العربية وتفتيتها في وضح النهار، لكي يتصدق علينا نتنياهو «بتجميد جزئي» للاستيطان لا يشمل القدس! فهل نحتاج إلى ذكاء خارق سياسيا لكي نفهم معادلة الصراع ومشروع ابتلاع القدس نهائيا، أو تطويقها في حضن بيت تل أبيب الكبير. محنة جسدنا العربي المجروح، تمتد إلى تلك البشاعة في الطائفية السياسية كما هي في لوحة لبنان المشوهة، والى ذلك النهج التسلطي في حكومة – لا تزال في طور الاعتراف الخارجي – حماس بمنع الناس من السفر بإصدار قرارات وقيود تعسفية، محنة الجسد العربي وروحه أرقام القتلى والجرحى في مدن العراق، وبلوغ تلك الاعتداءات على الأماكن الدينية، كالمراقد التاريخية والمساجد والأديرة والكنائس، وكأن الناس ملابس قديمة متهرئة حان الوقت لرميها في القمامة! في الوقت الذي تتلكأ فيه المسيرة الديمقراطية، وتتعثر مسارات التحول والتجربة الجديدة لمسألة الحريات، في اختلاق قوانين انتخابات قابلة للتفاوض والمزايدة ومن ثمة قابلة للتنازل والمساومة كلما دخلت السياسة بين دهاليز اللعبة وأكاذيب الشعارات، وخلسة الداخلين لمقعد البرلمان التجريبي في عالمنا العربي المثخن بالحسابات الطائفية والفئوية والعشائرية، مما يجعل الديمقراطية، ليست عصية وحسب بل ومشوهة ومريضة ومعرضة للانتكاسات الكثيرة. الجرح العربي يتعمق وتتفجر دماؤه في دار فور، دون أن يرى الإنسان السوداني أفقا مفتوحا في سماء الخرطوم ورجالات السياسة فيها، فهناك يتم التجاذب والنزاع حول مقاعد السلطة وجرجرة التجربة الديمقراطية لمختبر الامتحانات السياسية المريضة والأنانية، فمصلحة المجموعات باتت أهم من مصلحة الوطن، وسرقة الثروة والخيرات أهم من معاناة الشعوب والأقليات. كل هذه اللوحة نراها اليوم تتضخم بقلق على الحدود اليمنية – السعودية، وسقوط قتلى من ثلاثة أطراف، هي القوات السعودية واليمنية والجماعات الانفصالية (الحوثيين) غير أن المحصلة السياسية هي السقوط في مأزق الدم والمواجهات العنيفة، فتصبح المشاريع الديمقراطية وحقوق الإنسان وقضية الحوار السياسي مجرد أجندة للإعلان السياسي ومكاتب العلاقات العامة في المدن العربية. بين جراح اليمن في حدودها الداخلية هناك جرح آخر يستنزف الجسد العربي، إذ يتأرجح رقم الموتى والجرحى صعودا ونزولا، ولكنه يظل حاضرا في نشرة الإخبار، حيث جنوب اليمن يدخل مجددا في صراع بين الجيش اليمني وجماعات «الحراك» مما يضع الوطن «الموحد» في حالة تساؤل عميق عن جدوى استمرار وحدة قسرية «تسلطية» لا يؤسس لها المجتمع ولا الدولة على أسس وطنية عادلة، بقدر ما ينحو منهج العنف السياسي إلى لغة التصادم بالسلاح وإراقة المزيد من دم الشعب الواحد تاريخيا، والمقسم واقعا إلى «شعبين» كان حتى الأمس القريب دولتين مختلفتين ومتجاورتين، عرفتا نزاعا طويلا، ثم دخلتا في عرس الوحدة الذي ظل دائما وأبدا زواجا قسريا، لم ينتج في نهاية المطاف إلا رغبة طلاق سياسي لا رجعة فيه إلا في حالة واحدة هو إعادة تفكيك بنية ومواد الدستور اليمني، وصياغته على أسس جديدة تصبح فيه الولايات اليمنية لا مركزية واتحادية، كما هي تجارب دول عدة شريطة أن تصبح المواطنة والحريات قيمة عليا في جسدنا العربي المتهرئ والعجوز .
صحيفة الايام
8 ديسمبر 2009