في كل مرة تحتفل دولة الإمارات العربية المتحدة الشقيقة بعيدها الوطني تستعرض أمام العالم قدراتها الاقتصادية المتنامية المتأتية أساسا مما حظيت به من نعمة ثرواتها النفطية واستثمار عائداتها. وقد اقترن هذا التنامي دائما بانعكاسه تطورا نوعيا مضطردا في حياة المواطنين دخلا ومعيشة وسكنا وتعليما وثقافة وحماية للبيئة ورياضة ورعاية صحية وخدمات أخرى أخذت كلها بأحدث ما وصل إليه العالم من رقي.
هذا العام تحتفل الدولة بعيدها 38 وسط عالم تجري متغيراته بإيقاع متسارع ودرامي تحدثه تأثيرات الأزمة العالمية الشاملة التي أصبحت تطال بشكل موجع كل بلد وكل إنسان على وجه البسيطة. ومع ذلك، فكما في كل عيد تبين تقارير المؤسسات الاقتصادية الدولية أن لدى الإمارات الكثير مما تباهي به. بيَّن تقرير بعثة صندوق النقد الدولي عن تطور اقتصاد الإمارات 2008-09 أن مؤشرات الاقتصاد الكلي بدت إيجابية وتعكس التعافي الذي يمر به الاقتصاد وسط تأثيرات الأزمة العالمية. ويتوقع التقرير أن يسجل معدل النمو 3% العام ,2010 ليرتفع إلى 4.3% العام 2011 وصولا إلى 5% العام 2012 ‘مع أسبقية نمو قطاع النفط’. ومن تصريحات مسؤولين إماراتيين يتبين أن نتائج الربع الأخير من العام 2009 جاءت أفضل من التوقعات التي وضعت العام .2008 فقد عاد الاقتصاد إلى النمو، ويتوقع لمعدله أن يسجل 1.3% للعام .2009 وقد انخفض التضخم إلى 2.56% في الأشهر الثمانية الأولى من العام 2009 بعد أن كان 3.4% في النصف الأول من العام. ويتجه الميزان التجاري لصالح الاقتصاد الوطني. وقد عاودت البلاد اجتذاب السيولة الخارجية، خصوصا من بلدان المنطقة بسبب ارتفاع الفوائد على الودائع والعوائد على بعض السندات، وكذلك ضمان الدولة للودائع لدى البنوك وتوفير تسهيلات الدعم. وقد وضع تقرير UNCTAD حول توقعات الاستثمارات العالمية 2009 – 2011 الإمارات بين أفضل 30 موقعا جاذبا للاستثمارات الأجنبية المباشرة.
ومع هذه الإنجازات الكبيرة فإن احتفالية هذا العام في ظروف الأزمة العالمية يجب أن تشكل محطة للتمعن من أجل الاستفادة من الإمكانات الموضوعية المودعة في طبيعة الاقتصاد الإماراتي وسد الثغرات الناجمة عن نمط التنمية الحالي باستمرار ريادة قطاعات المال والعقار والاتصال بين قطاعات الاقتصاد غير النفطي، والتطور الداخلي المتفاوت وغير المتجانس ودرجة الانكشاف التي لا تزال كبيرة على الاقتصاد العالمي والتي مكَّنَت الأزمة من التأثير سلبا على تطور الاقتصاد.
وإذا كانت أسبقية نمو قطاعات المال والعقار والخدمات داخليا قد ساعدت على ظهور وانفجار الفقاعات سريعا إثر الأزمة العالمية، فإن روابط اقتصاد الإمارات المالية النقدية العالمية قد زادت من مفعول هذه الفقاعات. وغدت الأزمة تملي ضرورة إعادة النظر في هذه الروابط، وتحديدا بالارتباط بالدولار، سواء كوحدة حسابية لبيوع النفط أو كمثبت لسعر صرف العملة المحلية. والحال هذه، فمع الميل التاريخي المستمر لهبوط أشبه هذه الأيام بالسقوط الحر للدولار يستمر انحدار القيمة التبادلية للسلعة الأهم في صادراتنا والأكثر حيوية بالنسبة للاقتصاد العالمي. وإلى ذلك أيضا تهوي باستمرار القدرة الشرائية للدرهم أمام اليورو والجنيه الإسترليني والين واليوان الصيني. وحيث إن سعر الدرهم المرتبط بالدولار لا يعكس قوة الاقتصاد الإماراتي ويعيق سرعة تعافيه من الأزمة العالمية، حيث إن انخفاض الدرهم المقدر بنحو 10% على الأقل عن قيمته الحقيقية يجعل العائد على الاستثمار في الاقتصاد الإماراتي أقل، ما يضعف جاذبيته.
من دروس الأزمة العالمية التي تستحق التمعن فيها بهذه المناسبة المهمة وما نمر به هذه الأيام هو ‘عنصرية’ رأس المال المالي العالمي. صحيح أنه ‘بفضل’ انتفاخ قطاع المال العالمي قدم هذا القطاع تسهيلات تمويلية مغرية استفادت منها دبي في نشاط عقاري ربما الأسرع نموا في العالم، وأشادت بنية تحتية أدهشت العالم. لكن أزمة المال العالمية ذاتها أناخت بكل ثقلها على هذا القطاع، الأكثر ريادية في اقتصاد الإمارة. وذاته رأس المال المالي العالمي سلط ماكنته الإعلامية لتصوير طلب دبي إعادة جدولة ديون شركة دبي العالمية وكأنها بحجم انهيار قطاع المال الأميركي والعالمي. أزمة، نعم. لكن الغرض من التهويل الإعلامي هو معاجلة حكومة دبي قبل أن تنجز عمليات إعادة الهيكلة الإدارية والائتمانية والمالية وغيرها وإجبارها على أن تبيع بأبخس الأثمان الأصول التي تفوق قيمتها الفعلية أضعاف حجم الديون المطلوب إعادة جدولتها. أضف إلى ذلك أنه في إطار الاقتصاد الفيدرالي تستطيع دولة الإمارات لوحدها تدوير زوايا هذه الأزمة. كما أن بلدان الخليج معنية حياتيا بمساعدة دبي على سرعة تجاوز الأزمة. فعليها تذكُّر أن ما حدث لاقتصاد الأرجنتين كان بداية أزمة عمَّت أميركا اللاتينية، وتايلند كانت بداية الأزمة الآسيوية، أما أميركا فبداية الأزمة العالمية.
من وجهة نظرنا إن أشكال إعادة الهيكلة المرقمة بالأولى والثانية.. إلخ، هي اضطرارية تحت ضغط الحدث الراهن. غير أن الأزمة العالمية بكليتها تملي ضرورة إعادة هيكلة فعلية، واعية وشاملة لكامل الاقتصاد الوطني في إطاره الفيدرالي. وهذه تتطلب ضرورة تبديل أدوار مختلف القطاعات ومكانها في الاقتصاد الوطني، بحيث تصبح معدلات نمو القطاعات الصناعية والزراعية وغيرها من القطاعات الإنتاجية، وليس المالية والعقارية والخدمية، هي محددة معدل النمو الاقتصادي عموما. الأكثر من ذلك، آن الأوان للتفكير في إعادة قطاع المال لكي يأخذ مكانه الثانوي كعامل مساعد، وليس ريادي في النمو والتنمية الاقتصاديين. وبكلمة – التفكير في العودة للاقتصاد الطبيعي في مقابل الاقتصاد النقدي.
العيد الوطني ذكرى لحدث عظيم في تاريخ الإمارات، وهو أيضا مناسبة للتفكير في التاريخ القادم.
صحيفة الوقت
7 ديسمبر 2009